شناسه مطلب صحیفه
عنوان:   
تاریخ:   
مکان:   
طهران، جماران‏
موضوع:   
مواعظ أخلاقية - عرفانية
مخاطب:   
السيد أحمد الخميني‏
شناسه ارجاع:   
جلد ۱۸ صحیفه امام خمینی (ره)، از صفحه ۴۰۵ تا صفحه ۴۱۲

بسم الله الرحمن الرحيم‏
رسالة من والد طاعن في السن قضى عمره بمجموعة من الألفاظ والمفاهيم وأفنى حياته في شرنقة النفس ويلفظ اليوم أنفاسه الأخيرة متأسفاً على ماضيه، إلى ولد شاب لديه الفرصة في أن يفكر في إنقاذ نفسه من التعلق بالدنيا التي هي شرك إبليس المحتال.
بُني! إن الدنيا تنقضي بكرّها وفرّها وصعودها ونزولها سريعاً وتطحننا عجلة الزمان جميعاً وإنّ ما لاحظتُه وقرأته عن أحوال طبقات الناس المختلفة أوصلني إلى نتيجة مفادها أن الأغنياء يعانون آلاماً نفسية وداخلية وروحية اكثر من سائر الطبقات، وإن آمالهم وأحلامهم التي لم تتحقق تؤلمهم اكثر وتؤذيهم.
وفي هذا العصر الذي نحيا فيه حيث يعاني العالم من القطبين القويين، فإن ألم العذاب الذي يعانيه قادة هذه الدول والقلق الذي يساور كل قطب ازاء الآخر لا يقارن بآلام وأتعاب الطبقات المتوسطة وحتى الفقيرة. إن منافستهم ليست منافسة عملية بل هي منافسة مليئة بالعذاب تقصم الظهر وكأن أمام كل واحد من هؤلاء ذئباً فاغراً فاه مكشراً عن أنياب حادة للإنقضاض على فريسته. إن ألم المنافسة هذا موجود في جميع الطبقات وكلما زادت المنافسة زاد ألمها، وإن ما يسبب خلاص الانسان ويهدي القلوب هو الزهد في الدنيا والابتعاد عنها وعن رغباتها وهو يحصل بذكر الله تعالى المستمر. إن من يسعون إلى التفوق بأي شكل من الأشكال سواء في العلوم- حتى العلوم الالهية- أو في كسب القدرة والشهرة والمال، فإنهم يسعون إلى زيادة أتعابهم. وإن الذين تحرروا من القيود المادية وخلصوا أنفسهم من شرك إبليس إلى حدٍّ ما فانهم يعيشون السعادة وجنة الرحمة في هذه الدنيا.
ففي تلك الأيام التي أجبر رضا خان الجميع على تغيير الزي وكانت الضغوط التي تمارس على الناس كثيرة وكان رجال الدين والحوزات الدينيه يعيشون القلق والاضطراب- لا أعاد الله الرحمن تلك الايام على الحوزات الدينية- رأيت شيخاً زاهداً بالقرب من مخبز وكان يأكل قطعة من الخبز فكان يقول: (لقد قالوا لي يجب أن تخلع عمامتك فأعطيتها لشخص ليخيط بها قميصين لنفسه وسآكل الآن الرغيف هذا وقد شبعت، وربنا كريم عند المساء). صدقني‏ يا بني بأني مستعد لتقديم جميع المناصب الدنيوية لبلوغ هذه الحالة. ولكن هيهات مني بلوغ ذلك، خاصة وأنا أعاني من مكائد ابليس والنفس الخبيثة.
بُني! لقد فاتني ذلك (يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل) «1» ولكنك تتمتع بقوة الشباب وقدرة العزيمة أرجو أن تتمكن من السير في طريق الصلحاء. ولا أقصد بذلك أن تتنحى عن خدمة المجتمع وتنعزل عنه وتكون عالة على عباد الله، إذ أن ذلك من صفات المتنسكين الجاهلين أو الدراويش المتاجرين. إن سيرة الأنبياء العظام- صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين- والأئمة الأطهار- عليهم السلام- الذين يمثلون قمة العارفين بالله والمنطلقين عن كل قيد والمرتبطين بالساحة الالهيه في الثورة ضد الحكومات الطاغوتية وفراعنة العصر بكل قوة، حيث عانوا الآلام لتطبيق العدالة في العالم، تعلّمنا دروساً كبيرة في هذا الطريق وإن كانت لدينا عيون مبصرة وآذان صاغيه سيفتح طريقنا قوله: (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) «2». يا بني لا تدلّ العزلة الصوفية على الاتصال بالحق، كما لا يدلّ الدخول في المجتمع وتأسيس الحكومة على الانفصال عن الحق. إن المعيار في الأعمال دوافعها، ما اكثر العبّاد والزهاد الذين يعيشون في شرك إبليس ويبعدهم عن الحق ويجرهم نحو الشرك بما يناسبه من التكبر والأنانية والغرور والإعجاب بالنفس وتحقير عباد الله والشرك الخفي وما شابه ذلك، وربّ مسؤول للحكومة ينال قرب الحق تعالى بالدافع الإلهي، أمثال النبي داود والنبي سليمان- عليهما السلام- وأفضلهم وأشرفهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم وخليفته بالحق على بن أبي طالب عليه السلام وكالامام المهدي- أرواحنا لمقدمه الفداء- عند إقامة حكومته العالمية، فالمعيار في العرفان والحرمان هو الدافع. وكلما اقتربت الدوافع من نور الفطرة وابتعدت عن الحجب حتى حجب النور، اتصلت بمصدر النور حيث أن الكلام عن الاتصال في نفسه يعدّ كفراً.
بُني! لا تتخل عن المسؤولية الانسانية التي هي خدمة الحق في حالة خدمة الخلق، إذ أن صولة شيطان وجولته في هذه الساحة ليست أقل منها بين المسؤولين من أصحاب المناصب، ولا تحاول نيل المناصب- المادية أو المعنوية- بحجة القرب من المعارف الالهية أو خدمة عباد الله، إذ أن الاهتمام بها من الشيطان فكيف السعي للحصول عليها. اسمع موعظة الله الوحيدة بالقلب وبالروح واقبلها بكل وجودك وسر على نهجها: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) «3». إن المعيار في بداية المسير القيام لله سواء في الأعمال الفردية أو الأنشطة الاجتماعية، فحاول أن تنجح في هذه الخطوة الاولى إذ أنها أسهل في عهد الشباب واكثر نجاحاً. فلا تكن مثل والدك الهرم الذي إما هو متوقف عن السير أو متراجع. وهذا مما يحتاج إلى المراقبة والمحاسبة. إذا كان ملك الجنّ والانس لأحد بدافع الهي بل حتى إذا حصل عليه بتلك الدوافع فانه عارف بالله وزاهد في الدنيا. واذا كانت الدوافع نفسانية وشيطانية فكل ما يحصل عليه ولوكان مسبحة فقد ابتعد عن الله تعالى بنفس القدر.
يابُني! اقرأ سورة الحشر المباركة حيث تحتوي على خزائن المعرفة والتربية وهي تستحق أن يتدبر فيها انسان طول عمره ليكسب منها زاد الآخرة بالعون الالهي. خاصة آياتها الأخيرة حيث يقول الله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) «4» حتى نهاية السورة فهذه الآية الصغيرة لفظاً الكبيرة معنى تحتمل أفكاراً بناءة تنبّه الانسان منها:
أولًا. يمكن أن تخاطب الذين هم في المرحلة الأولى من الإيمان مثل إيمان عامة الناس، ففي هذا الاحتمال فإن الأمر بالتقوى هو الأمر بأول مراتبها. وهي تقوى العامة وهي تجنب مخالفة الأحكام الظاهرية الالهية وتتعلق بأعمال الأعضاء والجوارح. وعلى هذا الاحتمال فإن جملة (ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ) تحذر من تبعات أعمالنا وهي تشهد على أن ما نقوم به من أعمال تنتقل إلى النشأة الأخرى وسوف تصل إلينا وقد وردت في ذلك آيات وأخبار كثيرة.
إن التفكير في هذا الأمر يكفي القلوب الواعية بل يوقظ القلوب المستعدة لذلك وقد يكون دليلًا على المراتب الأخرى والمقامات الأسمى- والظاهر هو أن تكرار الأمر بالتقوى تأكيد وإن كانت تحتمل أمراً آخر أيضاً. وقوله: (إن الله خبير بما تعملون) تحذير جديد من أن أعمالكم لن تخفى على الله تعالى إذ أن العالم محضر الحق تعالى.
ثانياً. يمكن أن تخاطب الآية ممن أوصلوا الايمان إلى قلوبهم. فربما يؤمن انسان بالشهادتين حسب الظاهر ولكن قلبه يكون غافلًا عنها، وأن يكون عالماً معتقداً بالأصول الخمسة دون أن يبلغ هذا العلم والايمان قلبه، وقد يكون الجميع كذلك إلّا الخواص من المؤمنين. وإن المعاصي التي تصدر عن بعض المؤمنين تأتي من ذلك، فإذا كان القلب واعياً بيوم الجزاء والعقاب مؤمناً به، يستبعد أن تصدر عنه المعصية والعصيان. ومن آمن قلبه بعدم وجود إله إلّا الله سوف لن يميل إلى غير الحق تعالى ولا يمدح الآخرين ولن يخاف غيره.
بُني! قد أجدك قلقاً على التهم الموجهة اليك والإشاعات الكاذبة حزيناً عليها. فعليّ أن أقول أولًا بأنك ما دمت حياً وتتحرك واعتبرك الآخرون مصدراً للتأثير، فإن الانتقاد والتهمة ونسج الإشاعات ضدك موجود لا محالة. إن العقد كثيرة والتوقعات تزداد يومياً والحسد كثير. إن من يعمل خالصاً لله لن يسلم من أذى أصحاب النوايا السيئة. فلقد رأيت عالماً تقياً كان الجميع‏ يذكرونه بالخير قبل أن ينال رئاسة صغيرة وكان أهل العلم وغيرهم يجلّونه ولكن عندما حظي بإهتمام الناس واشتهر في الدنيا- ولو قليلًا- لأجل منصبه وجّهت إليه التهم وأوذي كثيراً وفارت الأحقاد والعقد والحسد ضده، وبقي يعاني من ذلك طالما كان على قيد الحياة. وثانياً عليك أن تعلم أن الايمان بوحدة الله ووحدة المعبود ووحدة المؤثر لم يبلغ قلبك كما ينبغي. فحاول إيصال كلمة التوحيد- التي هي اكبر كلمة وأسمى جملة- من عقلك إلى قلبك فإن حظ العقل هو الاعتقاد البرهاني الجازم فإن حصل هذا البرهان ولم ينقل إلى القلب بالمجاهدة والتلقين سيكون أثره ضئيلًا.
وكم من أصحاب البراهين العقلية والاستدلالات الفلسفية، يقعون في شرك إبليس والنفس الخبيثة اكثر من غيرهم. إن لأصحاب الاستدلال أرجلًا خشبية «5» وإن هذه الخطوة البرهانية العقلية تتحول إلى خطوة روحانية ايمانية عندما تبلغ مقام القلب من أفق العقل حتى يصدّق القلب ما أثبته الاستدلال عقلياً.
بُني: اجتهد لكي تسلّم قلبك لله ولا ترى في الكون مؤثراً غيره، ألا يصلي عامة المسلمين المتعبدين عدة مرات في الليل والنهار وتتضمن الصلاة التوحيد والمعارف الالهية ويرددون (اياك نعبد وإياك نستعين) عدة مرات في الليل والنهار، ويعتبرون العبادة والإعانه لله تعالى في الكلام. ولكنهم جميعاً ينحنون أمام العالم والغني والقوي إلا المؤمنين بالحق والخواص من عباد الله. وإن اولئك قد يفعلون للعباد ما لا يفعلونه لله ويستمدون من كل شخص ويستعينون به ويتشبثون بالحشائش لبلوغ الآمال الشيطانية وهم غافلون عن الحق، فلو احتملت الآية أن يكون الخطاب فيها لمن بلغ الايمان قلوبهم فإن الأمر بالتقوى لهؤلاء يختلف كثيراً عن الاحتمال الأول. إن هذه التقوى ليست تقوى عن الاعمال غير الصالحة بل هي التقوى عن الالتفات نحو غير الحق، والتقوى عن الاستعانة بغير الحق والعبودية لغيره، والتقوى عن السماح لغيره- جلّ وعلا- للدخول في قلبه. والتقوى عن الاعتماد والتوكل على غير الله. إن ما تراه يعاني منه الجميع من أمثالنا وإن ما يثير خوفنا وخوفك من الاشاعات ونشر الأكاذيب، يشبه خوفنا من الموت والخلاص من الطبيعة يجب تجنبه. ففي هذه الحالة فإن المراد من قوله (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) هو الأعمال القلبية التي لها صورة في الملكوت وصورة أخرى فيما فوقه. وإن الله خبير بخطرات القلوب ولا يعني ذلك أن تتخلى عن أي نشاط وتهمل الأمور وتعتزل الجميع وتترك كل شي‏ء وتعش في العزلة إذ أن ذلك يخالف سنّة الله وسيرة الانبياء العظام العملية وسيرة الأولياء الكرام. إنهم- عليهم صلوات الله وسلامه- قد بذلوا مساعيهم اللازمة للأهداف الالهية الإنسانية، ولكن لم يكونوا مثلنا إذ نلتفت إلى الأسباب مع الاستقلال، بل كانوا يعتبرون كل شي‏ء في هذا المقام الذي هو من مقاماتهم العادية، منه- جلّ وعلا- وكانوا يرون الاستعانة بأي شي‏ء الاستعانة بمبدأ الخلق، وهذا أحد الفروق الموجودة بينهم وبين الآخرين. إننا وامثالنا نغفل عن الحق بالنظر إلى الخلق والاستعانة بهم. وكان هؤلاء يعتبرون الاستعانة منه حسب الواقع وإن كانت في الظاهر استعانة بالأدوات والأسباب، وكانوا يعتبرون الأحداث منه وإن هي عندنا حسب الظاهر ليس كذلك. ولذلك فإن الأحداث مهما كانت مؤلمة لنا تعتبر عذبة في مذاق نفوسهم.
بُني! إن شيئاً واحداً يثلج الصدر لأمثالنا المتأخرين عن ركب الأبرار وهو في رأيي قد يكون مؤثراً في بناء الانسان الذي يهذب نفسه. علينا أن ننتبه إلى أن مصدر حبنا للمديح وكرهنا للنقد والاشاعات حب النفس وهو اكبر شرك لأبليس اللعين. نحن نرغب في أن يثني علينا الآخرون وإن ضخموا لنا الأعمال الصالحة الوهمية مئات الأضعاف، وأن يغلق علينا باب النقد- ولو كان صحيحاً- أو أن يتحول إلى المديح والإطراء. إننا نحزن من تتبع الآخرين لعيوبنا لا لأنه مخالف للحق، ونفرح من المديح لا لأنه موافق للحق، بل لانه يعيبني ولا يمدحني. إن الأنا هي التي تحكمنا هنا وهناك وفي كل مكان فلو أردت إدراك صحة هذا الأمر فانظر إذا ما صدر عمل عنك وصدر مثله أو أفضل منه عن غيرك خاصة إذا كان من أندادك وقام المادحون بمدحه وإطرائه فإن ذلك سيؤلمك. والأشد من ذلك إذا مدحوه في عيوبه فاعلم في هذه الحالة علم اليقين أن ذلك من صنع الشيطان والنفس التي هي أسوأ منه.
بُني! ما أحسن أن تلقّن نفسك وتوطّنها على أن مدح المادحين وإطراءهم قد يهلك الانسان ويبعده كثيراً عن التهذيب. إن تأثير الثناء الجميل السلبي في نفوسنا المريضة باعتبارنا ضعاف النفوس قد يكون سبباً للشقاء والبعد عن محضر الحق- جل وعلا- المقدس.
وقد يكون لتتبع الآخرين لعيوبنا ونشر الاشاعات فوائد في معالجة عيوب نفوسنا وهو كذلك كالعملية الجراحية المؤلمة التي تسبب شفاء المريض. إن من يبعدوننا عن جوار الحق بمدائحهم أصدقاء يعادوننا بصداقتهم، وإن من يظنون أنهم يعادوننا بذكر عيوبنا وتوجيه الشتائم الينا ونشر الاشاعات ضدنا فانهم أعداء يصلحوننا بأعمالهم إذا كنا جديرين بالاصلاح فلو أننا صدقنا هذه الحقيقة وتركنا مكائد الشيطان والنفس سنرى الحقيقة كما هي عند ذلك سنقلق كثيراً من مدح المادحين وإطرائهم، كما نقلق اليوم من تتبع الأعداء لعيوبنا ونشرهم للإشاعات، ونرحب بذكر عيوبنا كما نرحب اليوم بالمدائح وترهات المادحين. فلو بلغ قلبك ما ذكر فإن المكاره ونشر الأكاذيب لا تزعجك ويكون لديك الطمأنينة القلبية إذ أن القلق يأتي من الأنانية. نجّانا الله برحمته منه.
ثالثاً. وهناك احتمال آخر وهو أن يكون الخطاب موجهاً إلى اصحاب الايمان من الخواص من اهل المعرفة المتيمين بمقام الربوبية وعشاق جمال الجميل الذين يرون الكائنات تجلياً للحق بعين القلب والمعرفة الباطنية ويشاهدون نور الله في المرئيات حيث أدركوا بالمشاهدة المعنوية والسير القلبي‏ معنى الآية الكريمة (الله نور السموات والأرض) «6» رزقنا الله وإياكم. وعلى هذا الاحتمال فإن الأمر بالتقوى لهذه الطائفة من العشاق والخواص يختلف كثيراً من الآخرين وقد تكون التقوى عن مشاهدة الكثرة وشهود المرئيات والرآئي، وأن تكون تقوى من الالتفات إلى الغير ولو كان في قالب الالتفات إلى الحق عن الخلق أو التقوى عن (ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله ومعه وبعده) «7» فهو مقام اعتيادي للمخلصين من الأولياء إذ أن فيه أثراً من (شي‏ء) وقد يكون تقوى عن مشاهدة (الله نور السموات والأرض) والتقوى من مشاهدة (هو معكم) «8» أو (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) «9» أو تكون تقوى عن تجلي جمال الحق في الشجرة من قبيل ما هو عائد إلى مشاهدة الحق في الخلق. فعليه فإن الأمر بالنظر إلى (قدمناه لغد) هو حالات مشاهدة الحق في الخلق والوحدة في الكثرة حيث تأخذ صورة مناسبة لها في العوالم الأخرى.
رابعاً. احتمال أن يكون الخطاب موجهاً إلى المخلصين من الأولياء الذين اجتازوا مرحلة مشاهدة الحق في الخلق ومشاهدة جمال الوحدة في الكثرة الحالية، وليس في مرآة مشاهداتهم أثر لغبار الخلق حيث تخلصوا في هذه المرحلة من الشرك الخفي ولكن سلموا قلوبهم لتجليات أسماء الحق وأصبحوا عشاقاً للأسماء حيث جعلتهم التجليات الأسمائية يفنون عن غير الله ولا يشاهدون إلا تجليات الأسماء، ففي هذا الاحتمال إن الأمر بالتقوى هو اتقاء مشاهدة الكثرات الأسمائيه والتجليات الرحمانية والرحيمية وسائر أسماء الله وكأنها تناديهم أن ليس هناك منذ الأزل إلى الأبد، إلّا تجلٍ واحد ويتم تأويل سائر الفقرات بمناسبة هذا الأمر وبعد هذا لا يوجد شاهد ومشاهدة وشهود ويكون الفناء في (هو المطلق) ولا هو إلا هو.
خامساً. إن أشمل الاحتمالات هو حمل كل لفظة مثل (آمنوا) و (اتقوا) و (انظروا) و (ماقدمت) بمعانيها المطلقة وهي كلها مراتب تلك الحقائق التي تعتبر الألفاظ عناوين للموضوع لمعاني غير مقيدة ومطلقة عن الحد والحدود. فلو وجدت احتمالات أخرى فهي تندرج في هذا الاحتمال وهي من مراتبه. ولذلك فهي تشمل كل مجموعة أو طائفة من المؤمنين بمعناها الحقيقي وهي مصاديق للعنوان المطلق وإن هذا الكلام دليل لفهم كثير من الاخبار التي حاولت تطبيق آيات على جماعة أو شخص مما يسبّب توهم الاختصاص وهي ليست كذلك بل هي عبارة عن ذكر المصداق أو المصاديق كما ذكر فإنها من الاحتمالات الدالة على فهم الأية المباركة (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم‏ الفاسقون) «10» التي تأتي بعد الآية الكريمة المتقدمة. وحسب الاحتمالات المتقدمة فإن في هذه الآية الشريفة توجد احتمالات مختلفة المراتب ومتحدة الحقيقه وتناسبها احتمالات ليس هنا مجال لتفصيلها. واكتفى بذكر مسألة واحدة وهي أن نسيان الحق يؤدي إلى نسيان الأنفس سواء كان النسيان يعني عدم التذكر أو الترك، فكلاهما تحذير شديد. إن من ضرورات نسيان الحق تعالى هي أن ينس الانسان نفسه أو قل يدفعه الله تعالى إلى نسيان نفسه وهو ينطبق على جميع المراحل السابقة، ففي مرحلة العمل فإن من نسى الله وحضوره- جل وعلا- يصاب بنسيان نفسه أو سياق إليه، وينسى عبوديته ويساق إلى نسيان مقام العبودية. وأن يحل الشيطان فيه مكان نفسه وهو الذي لا يدري ما هو ومن هو، ما هو واجبه وما هي عاقبته. إن الشيطان عامل العصيان والطغيان وإن لم ينتبه الانسان وانتقل من هذا العالم في حالة الطغيان والعصيان قد يتحول إلى شيطان مطرود من الحق تعالى. وبمعناه الثاني أي الترك، فإنه اكثر إيلاماً إذ لو أدى ترك طاعة الحق وترك الحق إلى أن يتركه الحق ويكله إلى نفسه وقطع عنه عناياته، لا شك في أن ذلك ينتهي إلى خذلانه في الدنيا والآخرة. وإننا نلاحظ في الأدعية الشريفة «11» المروية عن المعصومين أنهم يدعون إلى ألا يكلهم إلى أنفسهم إذ أنهم- عليهم السلام- كانوا يعلمون تبعات هذه المصيبة ونحن عنها غافلون.
بُني! لا تستصغر الذنوب مهما بدت صغيره لك. (انظر إلى من عصيت) «12» وبهذه النظرة تبدو الذنوب كلها كبيرة ولا تغترّ بشي‏ءٍ ولا تنس حضور الله تبارك وتعالى في كل حال، إذ أن كل شي‏ء منه ولو انقطعت عنايته الرحمانية عن كائنات عالم الوجود لحظة واحدة فلا يبقى أثر حتى من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين إذ أن جميع العالم تجلٍ لرحمانيته- جلّ وعلا- وإن رحمته الرحمانيه- جلّ وعلا- مع قصر اللفظ والتعبير تُبقي نظام الوجود باستمرارية و (لا تكرار في تجليه جل وعلا) وقد يعبّر عنه ببسط الفيض وقبضه على سبيل الاستمرار. على كل حال فلا تنسه ولا تغترّ برحمته، كما عليك ألا تيأس وألا تغتر بشفاعة الشافعين- عليهم السلام- إذ أن لها موازين إلهية ونحن عنها غافلون وأن يكون أساس سلوكك وعملك التأمل في أدعية المعصومين- عليهم السلام- وحرقتهم من خوف الحق وعذابه. إن أهواء النفس وشيطان النفس الأمارة تدفعنا إلى الغرور وتهلكنا بذلك.
بُني! لاتكن وراء تحصيل الدنيا وإن كان من حلالها إذ أن حبّ الدنيا حتى الحلال منها رأس كل خطيئة «13»، إذ هو الحجاب الأكبر ويسوق الانسان نحو عالم الحرام. إنك شاب وتستطيع بنعمة الشباب التي منحها الله لك أن توقف الخطوة الأولى من الانحراف، وألا تسمح لها بأن تؤدي إلى الخطوات التالية إذ أن وراء كل خطوة خطوات أخرى، وإن كل ذنب- مهما صغر- يجر الانسان نحو الذنوب الكبيرة حتى تبدو الذنوب الكبيرة ضئيلة في رأي الانسان بل يتباهى بعض الناس بارتكاب الكبائر وقد يتحول المنكر في نظره معروفاً والمعروف منكراً لشدة الظلمات والحجب الدنيوية عنده.
أسأل الله تعالى- جل اسمه- أن ينوّر عين قلبك بجماله الجميل. وأن يزيل الحجب عن عينيك وأن يخلصك من القيود الشيطانية والإنسانية حتى لا تتحسر بعد انقضاء الشباب والدخول في أيام الشيخوخة، على ماضيك مثل والدك. وأوصل قلبك بالحق حتى لا يخيفك أي حادث، واقطع قلبك عن الآخرين لتخلص نفسك من الشرك الخفي والشرك الأخفى. إن الآيات حتى نهاية السورة تتضمن مسائل رائعة لا مجال ولا قوة لي بالحديث عنها.
يا الهي! اجعل أحمد عندك محموداً وفاطي «14» عندك مفطومة من النار، واجعل حسن أحسن وأوصل ياسر إلى اليسر وتولّ تربية هذه الأسرة المنتسبة إلى أهل بيت العصمة بعناياتك الخاصة واحفظها من شرّ شيطان النفس والشيطان الخارجي. ومنّ عليهم بسعادة الدارين. وآخر وصيتي ان اجتهد في خدمة الأرحام لاسيما والدتك التي ندين لها، وحاول كسب رضاهم. والحمد لله أولًا وأخيراً والصلوة على رسول الله وآله الأطهار واللعن على أعدائهم.
بتاريخ 17 شوال 1404 ه- ق‏
26 تير 1363 ه- ش‏
روح الله الموسوي الخميني‏

سایت جامع امام خمینی رحمة الله علیه