مطلب مرتبط

سخنرانی : هشدار به روحانیون حوزه نجف نسبت به برداشتهای غلط از احکام اسلام‌انسانٌ اسلامیٌانسانٌ اسلامیٌ
شناسه مطلب صحیفه
نمایش نسخه چاپی

خطاب‏ [التحذير من التصورات الخاطئة عن الإسلام‏]

النجف، مسجد الشيخ الانصاري‏
التحذير من التصورات الخاطئة عن الإسلام‏
علماء وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف‏
صحيفة الإمام الخميني ج ۳ ص ۲۱۰ الى ۲۱۸

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
‏بسم الله الرحمن الرحيم‏

بالأمس طرحنا موضوع (الغصب) وتحدّثنا به، وبعد نهاية الدرس ذكّرني أحد الاخوة أني طرحت هذا الموضوع سابقاً، فكان الامس تكراراً لذلك. وهذا غير بعيد عن مثلي، فالإنسان حين تعلو سنّه، وتغلبه الشيخوخة تضعف جميع قواه. وكما تضعف قوى الانسان البدنية عندما يشيخ، تضعف أيضاً قواه الفكرية والروحية، وقدرته على العبادة، وحالة عبادته.
كلُّ هذه قويّة في الشباب، ولهذا بسطتُ للاخوة المحترمين مراراً أن يقدروا نعمة الشباب حق قدرها، مازالوا يتمتعون بها، وأن لا يهدروها. لا أقول بأن لا يكون للشابّ وقت للابتهاج، لا أقول بأن يكون مشغولًا دوماً، بل أقول على الشاب أن ينظم اوقاته، ويجعل معظمها للتعلم. فما زلتم قد وطنتم أنفسكم أيها الاخوة على التحصيل العلمي، فعليكم- ونعمة الشباب بأيديكم- أن تنظّموا أوقاتكم، وتجعلوا القسم الاساسي منها للمناقشة والمطالعة والدراسة والبحث والتدريس، ولا تتوهموا أنكم تستطيعون- إذا ضاعت منكم أيام الشباب- أن تؤدّوا عباداتكم أو تحصّلوا العلوم في آخر العمر، فالإنسان لا يستطيع آخر عمره العبادة ولا التعلّم، فليست طاقته الذهنية قوية أو مستقيمة ليتمكّن من إدراك المطالب العلمية.
فعليكم منذ الآن وأنتم شبّان أن توطّدوا المباني العلمية والفقهية، وفي ذلك الوقت- آخر العمر- ستورق هذه المعارف وتزهر، وعندئذ تستفيدون منها. ولكن إذا تركتم هذه النعمة تضيع الآن هدراً، فإنكم لن توفّقوا بعدها.
فعلى الإخوة المحترمين وبناءا على ما تقدّم أن يعوا أنّ أيام الشيخوخة، أيام نسيان وضعف ذاكرة. ومن هنا شرعت ببحث ما كنتُ قد عرضته سابقاً، أجل شرعتُ بعرض ذلك الموضوع ثانية. وهذا من الضعف الذي يعتري الإنسان أيام شيخوخته.
هنالك أمر آخر مهمّ جداً في رأيي، وهو أن يلتفت الإنسان الى أنّ الإنسان نفسه الذي هو صفوة الخليقة ذو جوانب وأبعاد وخواصّ مختلفة، بعضها يشارك فيها النباتات، فكما أن نمو النبات يعتمد على الماء وغذاء من الارض يعتمد نموّ الإنسان- كسائر النباتات- على النعم والبركات التي أودعها الله- تبارك وتعالى- في هذه الارض.
وبعض خواصّه يُشارك فيها الحيوانات، فله عين وأذن وكذا وكذا وإدراكات يسيرة كما للحيونات (طبعاً هي الحيوانات بمستواها الاوطأ) وللانسان هنا مرتبة (مثالية) عدا ذلك، هناك أمور يختص‏ بها الإنسان وهي: التعقل، والجوانب المعنوية والتجرّد الذاتي. وليس للحيوان مرتبة التعقّل والتجرّد.
ثانياً: أنّ القرآن الكريم الذي يتصدر الكتب السماوية التي جاءت في الحقيقة- كالقرآن الكريم- لبناء هذا الإنسان، وتحويله من إنسان بالقوة إلى إنسان بالفعل، وموجود بالفعل، والأنبياء بدعوتهم بعثوا لتحقيق هذا الغرض- حسب اختلاف مراتبهم طبعاً- وهو تحويل الإنسان إلى إنسان حقيقي من (القوة) الى (الفعل) فجميع العلوم والعبادات والمعارف الإلهية والأحكام العبادية وكلّ ما هو موجود، إنّما يراد بها تحقيق هذا الأمر، ألا وهو تحويل الإنسان الناقص إلى إنسان كامل.
فالقرآن الكريم اذاً، كتاب لبناء الإنسان، وإذا ارتبط به الإنسان، وجده ضامناً لجميع المراتب الخاصّة بالإنسان، فكلّها فيه ومنه. والإسلام وسائر الاديان الإلهية تختلف عن سائر الحكومات، حكومة الإسلام ليست كسائر الحكومات، فسائر الحكومات مادية مهما كان نظامها، فهي تهتم بحفظ النظم في بلدانها، وإذا كان في ظلها من يتوخّون العدالة، ولا يظلمون أحداً ولا يعتدون عليه، وإذا حكموا عدلوا، ولم يتعدّوا على الآخرين، فإنّهم لا يبتغون غيرّ حفظ النظم في بلادهم فقط.
لذا كان لكلّ أحدً أن يفعل داخل منزله ما يشاء، بشرط أن لا يضرّ الحكومة، ولا يمس النظام. بإمكانه أن يشرب الخمر داخل منزله، أو يلعب الميسر، أو يرتكب ما أراد من القبائح، فإنّ الحكومة لا تتعرّض له. أما إذا خرج معربداً، فإنّ الحكومة تعترضه لما في ذلك من الإخلال بالنظام. أما ما يفعله داخل جدران منزله، فليس من شأنهم سواء في ذلك الحكومة العادلة والجائرة، إلّا إذا حصل اعتداء داخل المنزل، وعرضت القضية على الحاكم، حينها سيتصرفون ..
والحال ان الإسلام والحكومات الإلهية ليست كذلك، فهي تطرح حكهما في كل مكان، وعلى كل أحد أينما كان، وعلى أية حالة، أي أنّه إذا أراد أحد القيام بعمل مناف أو فساد ما داخل منزله، فإن الأحكام والحكومة الإسلامية تتبعه إلى هناك، وإن كانت الحكومة لا تأتي للتفتيش إلا أنّ الامر بحد ذاته محرّم، فهي تعطي حكماً بعدم القيام بذلك العمل، وتحدّد العقاب لمن يرتكبه، وإذا تم اكتشافه فإن لديها من الاساليب المختلفة من أنواع الحدود والردود التي تعتمد على الموازين الموجودة في الشريعة.
الإسلام وسائر الحكومات والدعوات الالهية تعتني بجميع شؤون الإنسان بدءاً من أدناها حتى أعلاها، لا مثل الحكومات الأخرى التي تهتم فقط بساسة الملك، فكما أن الإسلام ذو سياسة للبلاد، وأغلب أحكامه أحكام سياسية هو ذو أحكام معنويّة، فيه حقائق ومعنويات وأمور تبعث الإنسان على الرشد وتحكمه، والاشياء الداخلة في تربية الإنسان محكومة بضوابط معنوية، وفي درجة أدنى منها هي درجة الأخلاق ولها أحكام أخلاقية، أقول: تعتني أحكام الإسلام بالرشد المعنوي للانسان، وبتربية الإنسان روحياً في العشرة، فالاسلام يحدد أحكام العلاقة بين المسلمين والآخرين، للاسلام أحكام لعلاقة الإنسان مع نفسه، وأحكام لعلاقة الإنسان مع زوجته، ومع ولده وجيرانه، ومحلته واصحابه، ولعلاقته مع مواطني بلده، ولعلاقته مع من يعتنقون نفس ديانته، ومن يعتنقون غير ديانته، أحكام تشمل كل الحياة حتّى ما بعد الموت.
فلدى الإسلام أحكام لحياة الإنسان من قبل ولادته وزواج والديه، ومروراً بالحمل به حتّى الولادة والتربية في الطفولة والصبا والبلوغ والشباب والشيخوخة، بل تتبع الإنسان الى القبر وما بعد القبر.
فوضع الإنسان في رمسه لا ينهي الأمر، بل ذلك أول الامر، فجميع هذه الحياة البشرية هنا. وكل ما يتعلّق بتربية الإنسان، وجعله عقلانياً وأخلاقياً وغيرهما الى ان ينفصل عن هذا العالم ويبلغ مرتبة الكمال ومرتبة التجرد- المرتبة الأصلية- ثم بعد تسليمه إلى القبر وبدء حياته الروحانية حياة القبر، الحياة الروحية والمعنوية والبرزخية، وما هو أرقى من الحياة الروحية والبرزخية، وكل هذه من اختصاص الإسلام. فالإسلام وأحكامه التي بعث الله- تعالى- بها الانبياء والرسل لا تقتصر على هذا العالم فقط، ولا بالعالم الآخر فقط.
مرت علينا عصور كثيرة كان فيها الفلاسفة والعرفاء والمتكلّمون وأمثالهم في طلب المقاصد المعنوية، وقد تمسكوا دوماً بتلك المعنويات (كل حسب طاقة إدراكه) وخطّأوا السطحيّين إذ عدّوا كل من سواهم سطحيّاً وخطأووه.
وحينما تعرّضوا لتفسير القرآن، فسّروا أغلب الآيات بالمعاني العرفانية والفلسفية، وغفلوا كلياً عن الحياة الدنيا، وما هو مطلوب لها، وعن التربية الواجب تحقيقها فيها. غفلوا عن ذلك، وتمكسّوا بتلك المعاني التي تفوق إدراك العامة- كل حسب مذهبه- وعلاوة على طرح تلك التفاسير خطأووا كل من سواهم.
وفى عصرهم نفسه كانت هناك طائفة أخرى من العلماء ممن توجهوا نحو الاهتمام بالمسائل الفقهية والتعبدية، أولئك أيضاً قاموا بدورهم بتخطئة هؤلاء، فوصموهم بالالحاد أو الكفر أو عملوا معهم ما عملوا وخطأووهم، والحال أن الجميع يجانب الواقع.
فالفقهاء حصروا الإسلام بالأحكام الفرعية، والفلاسفة والعرفاء حصروا الإسلام بالجوانب المعنوية وما وراء الطبيعة، إذ كانوا يعتقدون أن ما وراء الطبيعة هو الشامل لكل الجوانب، في حين أن أولئك رأوا أن الإسلام جملة من الأحكام للدنيا، وأنه مجموعة من الأحكام الفقهية، ولا معنى لكل ما عدا ذلك.
ظهرت بعد ذلك مجموعة من الكتّاب المتدينين والفضلاء العاملين- كأولئك الفقهاء العاملين- فالمتكلمون والفلاسفة كانوا عاملين أيضاً، وسعوا إلى خدمة الدين، وتوضيح أحكامه- كل حسب فهمه- وعلى أية حال، ظهرت مجموعة من الكتّاب ذوي الاقلام الجيدة، هؤلاء فسروا الآيات القرآنية على خلاف ما فسّرها العرفاء والفلاسفة من الأمور المعنوية، فسّروها بالماديات.
أولئك كانوا يقولون: إن الإسلام جاء أساساً لتعليم الناس التوحيد وسائر المسائل العقلية الالهية، وباقي الأمور إنما هي مقدّمة لذلك، لذا ينبغي تركها، والسعي نحو تحقيق الغايات لذا لم يكترثوا- طبعاً بعضهم لا جميعاً- بالفقه والفقهاء، ولا بالأخبار أو ظواهر القرآن أو الكثير من الأحكام الموجودة في القرآن. طبعاً لم يردّوها، إلا أن تعرّفهم كان كالرد لها تماماً، فعدم الاكتراث بها، والحياد عنها كان معناه هذا.
وإضافة إلى تخطئتهم أقرانهم، واعتبارهم قشريين، هو معنى (نؤمن ببعض ...) الآية، هم لم يقولوا: لا علاقة لنا، أو لا نقبل بذلك!، بل قالوا: (إن الجوانب المادية طاغية على الدنيا، وإن الدنيا مليئة بالزخرف، وإن أهلها كذا ...).
ثم ظهرت مجموعة قالت: (إنّ أحكام الإسلام جاءت أساساً لإيجاد نوع من العدالة الاجتماعية، والقضاء على الطبقية، وليس في الإسلام شي‏ء آخر، والتوحيد في الإسلام إنمّا يعني التوحيد بين جماهير الناس في نمط الحياة، وأما العدالة في الإسلام، فتعني حياة الناس بعضهم مع بعض بشكل عادل ومتساو، فالأساس أن تكون الحياة البشرية كالحياة الحيوانية، فيعيش الناس حياةً واحدة، لا يتدخل أحد في شؤون أحد.
أما تلك الآيات التي تتحدّث بالمعاد والتوحيد، وكل تلك الأدلة والبراهين الواردة بخصوص إثبات النشأة الثانية «1»، فإنّ ذلك المتدين يغضّ طرفه عنها، ويلجأ إلى ما يلجأ إليه ذلك الذي لم يقوّ تدينه إلى درجة كافية من التأويل وهكذا.
في أيام شبابنا رأينا اثنين أو ثلاثة من طلبة العلوم الدينية ذوي انحراف، لكنّ تلك الأمور لمّا تظهر ذلك الوقت، والجديد الذي كانوا قد جاؤا به هو أنهم فهموا توّاً شيئاً مفاده (أن القيامة هنا في الدنيا، وكل ما يجري فيها يقع في هذه الدنيا، القيامة هنا، والجزاء هنا، وكل شي‏ء ينتهي هنا، والحياة البشرية ليست سوى حياة حيوانية، وكل شي‏ء هنا في هذه الدنيا).
لم يقولوا: لا نؤمن بالقيامة، وإنّما قالوا: القيامة هنا في الدنيا، لم يرفضوا آيات القيامة، وإنّما قالوا بحصولها هاهنا. تلك المجموعة كانت من المتدينين ومن المحبوبين أيضاً، إلا أنهم كانوا متوهّمين مشتبهين. وحينما يطالع الإنسان ما كتبوا في المجلّات وغيرها يرى أنَّه ليس بشي‏ء أصلًا.
فالإسلام عندَهم جاء لبناء الإنسان بناءً غير طبقي، أي: أنه جاء لجعل الجماعة البشريّة كالجماعة البهيمية لا تفاوتَ فيها، يعني أن يعيش الناس نمطاً من العيش تتكفّل فيه الحكومة بتلبية حاجات الجميع بالتساوي، ويكون الجميع في خدمتها.
فقد كانوا يريدون إسقاط كل الآيات والضرورات الموجودة في كل الأديان من حساباتهم، ويؤوِّلون الآيات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وكما يحلو لهم لإثبات مدّعاهم، معرضين عن الآيات التي لا يستطيعون تأويلها، تماماً كما كان أولئك يفسّرون الآيات بالمعنى العرفاني.
وتأملوا ما كان أولئك الذين اتجهوا هذا الاتجاه يقولونه في قضية (موسى والخضر) «2» فمن أين جاءوا بما قالوا؟ الله اعلم من أين جاءوا بما قالوا. غير أنه طبيعي ذلك بعد المستوى الذي وصله الإنسان في ذلك التوجّه، وبعد أن أضحى كل توجهه النفسي منصبّاً على تلك المعاني الغيبية، وإغفال أمر التربية على الارض تماماً. وبعد أن أضحت الأمور التي لا تتجلى في موضوع واحد، تتجلَّى له في الموضوع الذي يراه هو، ولا وجود لسواه، قضية (موسى والخضر) ظاهرها «3» هذا المعنى الذي ذكر مثلًا.
والإنسان اساساً حينما ينصب جهده على علم من العلوم، ويوجِّه اهتمامه نحوه، فان اهتمامه سينحصر به، والقلب بطبيعته هكذا، فحينما يتوجه نحو العرفان يصبح كله عبارة عن (عرفان) ولا يثير اهتمامه بعدئذ وجود دنيا أو وجود منهج تربوي، فهو يرى العبادات بشكل آخر، والدعاء كذلك بصورة أخرى، أجل، يفسّر الأمور كلّها بالمعنى الذي لا يرى غيره، ولذا لا يدرك الأمور التي لا تنسجم مع توجّهه، ويفسّر جميع الأمور بالمعنى المسلّم به عنده.
من جهة ثانية فإن أولئك الذين تمسكوا بالاتجاه الآخر، وأضحى الواحد منهم لا يدرك سوى عالم المادة هذا، هم ذوو إدراك ناقص لا يفهمون حقيقة الأمر، إدراكهم ناقص، وهم ليسوا أصحاب برهان أو استدلال بحيث يمكنهم إثبات مدعاهم، انهم ذوو بيان، ذوو بيان جميل، أدباء، وهم لا يتعقلون بوجود ما وراء هذا العالم، لذا يُؤوّلون الآيات بآرائهم، ويفسرونها بهذه الحياة الحيوانية، وينادون بجعل الحياة بلا طبقية، بجعلها مرفهة يعيش فيها الجميع سواسية وما شابه ذلك، إذا أمكن ذلك أساساً.
لابد من القول: إن الإسلام (بدأ غريباً) «4» وغير مرغوب فيه، واليوم أيضاً عاد الإسلام غريباً، والإسلام كان غريباً منذ بدء ظهوره حتى الآن، وما من أحد يعرف الإسلام كما ينبغي.
ذلك (العارف) عالم بالإسلام بتلك المعاني العرفانية والغيبية، وذلك (المتديّن) الذي ظهر بعد ذلك، وكتب في المجلّات كذا، يرى الإسلام عبارة عن معرفة حكومته وما ينبغي أن تكون عليه، وكيف تكون تربيتها، وما يجب أن يكون عليه ظاهرها، وما ينبغي وجوده من العدالة.
ويكفي أن يصل الإنسان لتحقيق تلك الحياة المادية الطبيعية بتلك الشروط، فيكون الإسلام قد حقق أهدافه، فأقصى غاية الإسلام هي هذه الحياة الحيوانية المرفّهة التي يعيش فيها البشر كسائر الحيوانات التي ترعى في المراعي، لا يزاحم أحدها الآخر، وتعلف جميعها على السواء.
فالبشر هم كذلك، يقولون: (ان بني الإنسان القديم كانوا جميعاً يأكلون السمك، يصطادون السمك من البحار، ويأكلونه دون أن يزاحم أحد أحداً، ويصطادون الغزلان والحيوانات الأخرى من الصحاري، ويأكلون على السواء دون أن يضيق أحدهم بالآخر، وهذه هي المرتبة الراقية التي كان الإسلام وما زال يسعى لبلوغها.
فالاسلام وسائر الأديان السماوية جاءت، لكي تعيد البشر إلى تلك الحياة الحيوانية المرفهة.
كل ما هنالك أنهم كانوا سابقاً يصطادون السمك ويعيشون، الآن سيعيشون بالسمك والدجاج حياةً مرفّهة يصلح الانسان فيها أمر لباسه ومأكله وحسب) اما ما عدا ذلك من المعارف الالهية وما وراء هذا العالم وما وراء الطبيعة، فلا يستطيعون أن يتعقلوه، فماذا يفعلون حين لا يستطيعون إدراكه؟
عليه، أقول: أيها السادة المحترمون المشتغلون بتحصيل العلوم ليس لأولئك الحق أن يقولوا لكم.
الحقيقة أنّ من يعرف الإسلام، ويدرك حقيقته لا يعطي أولئك الحق أن يقولوا: إن اللحى والعمامة أصبحت عديمة الفائدة، وإن هذا النمط من التحصيل لا ينفع (يقولون هذا لجهلهم بالاسلام) كما لا يعطيكم الحق أن تقولوا أنتم عن معاني المعرفة والمعارف الإلهية: ما هذه العلوم؟
(اذا قلتم شيئاً كهذا، فهذا يعني أنتم أيضاً مثلهم) كما أنّه ليس لكلا الفريقين الحق فيما يقول، فأنتم تستطعيون تسفيه منطقهم في رفع الظلم وبسط العدالة، كما أنهم سيخطئون كلّ شي‏ء.
إن الاسلام ليس محصوراً في هذه الأمور، الإسلام يبني إنساناً ساعياً للعدالة وناشراً لها، إنساناً يتحلى بأخلاق كريمة، ويحمل معارف الهية تؤهّله أن ينسجم مع واقع الحياة في العالم الآخر بعد رحيله من هذا العالم، فهو آنذاك يكون قد أصبح آدمياً بحق. هؤلاء الذين يرون جانباً واحداً من الإسلام دون غيره ناقصون (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
يروى- ولست بصدد تصحيح الرواية، أو ردّها- أن من المفسرين من يقولون: إنّ (المغضوب عليهم) هم (اليهود) و (الضالين) هم النصارى. وهناك رواية أخرى- ولا استطيع تأكيدها، ولكنّي أنقلها عمّن نقلوها- أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: (كان أخي موسى عينه اليمنى عمياء وأخي عيسى عينه اليسرى عمياء، وأنا ذو عينين) «5».
ويقول هؤلاء المفسرون: إنّ ذلك لأن (التوراة) اهتمت بالماديات والأمور السياسية والدنيوية أكثر، وترون كيف تكالب اليهود، يأكلون الدنيا بكلتا يديهم، وما زالوا غير مكتفين، إنَّهم يأكلون أميركا، ويأكلون ايران الآن أيضاً، وهم غير قانعين، يبتعلون كل مكان بأكمله.
وفي كتاب حضرة عيسى كان التوجّه نحو المعنويات والروحانية أكثر، (فالعين اليسرى) التي تعبر عن الجانب الطبيعي كانت (عمياء) (ولا أستطيع تأكيد صدور الرواية عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لكنّي أنقلها كما نُقِلَت أي: لم يكن متوجّهاً إلى جهة (اليسار) التي تشير إلى الطبيعة أو أنه كان قليل التوجّه نحوها. والتوراة حسب طبيعتها كان توجهها للماديات أكثر.
و (أنا ذو عينين) أي: متوجّه نحو المعنويات والماديات معاً، وترون كيف أن أحكام الإسلام تشهد على ذلك، ترون أحكامه وسياساته. يتصور الكثيرون، من الناس ومن أهل العلم، والقشريين المقدّسين أن لا ربط للإسلام بالسياسة، وان الإسلام والسياسة مفصولان أحدهما عن الآخر، وهو الأمر الذي لا تسمح الحكومات بحدوثه، والذي أوحى به الينا هؤلاء الاجانب، وتلك الحكومات منذ أمد، فهم يقولون: (ما علاقة الإسلام أو المعمم بالسياسة) كان البعض إذا أراد أن يعيب على أحد المعمّمين يقول: (معمم سياسي).
يقولون: (الإسلام بعيد عن السياسة والدين على حدة، والسياسة على حدة). هؤلاء لم يعرفوا الإسلام الذي تشكّلت حكومته في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستمرت في البقاء بعد ذلك‏ - عادلة أو غير عادلة- حتى وصلت عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فعادت لتكون حكومة الإسلام العادلة. وكانت حكومته ذات سياسة من جميع الجوانب، وإلا فما هي السياسة؟ العلاقة بين الحاكم والشعب، والعلاقة بين الحاكم وسائر الحكومات، والقضاء على المفاسد الموجودة، كل ذلك سياسة.
ولو تأملنا قليلًا، لوجدنا أحكام الإسلام السياسية أكثر من أحكامه العبادية، والكتب الموجودة في الإسلام عن السياسة أكثر منها عن العبادة. فذلك المفهوم الذي سعوا إلى زرعه في أذهاننا مفهوم خاطئ، وإن كان بعض الإخوة المحترمين قد صدقوا بفصل الإسلام عن السياسة، وأن الإسلام مجموعة من الأحكام العبادية تخص العلاقة بين الإنسان والله، فاذهبوا أنتم إلى مسجدكم، وادعوا الله ما طاب لكم، واقرأوا القرآن أينما شئتم، ولن نمسّكم بشي‏ء.
هذا ليس إسلاماً! الإسلام وقف بوجه الظلمة، وأصدر أحكاماً بالقتال، وحكم بالقتل على الكفّار والمعتدين، وله أحكام على من هم هكذا. أفكل هذه الاحكام في الإسلام بالقتال والجهاد وكذا وكذا، والإسلام بعيد عن السياسة؟! والإسلام ليس سوى ارتياد المسجد وقراءة القرآن وأداء الصلاة؟! ليس كذلك، الإسلام لديه أحكام يجب تطبيقها.
لزوم التمسّك بالمعنويات‏
من جهة أخرى يريدون القول: لماذا تذهبون إلى المسجد؟ ما معنى الصلاة أصلا؟ وهذا خطأ أيضاً، فالاسلام فيه الصلاة (بني الإسلام ... على الصلاة) فهو ليس دنيا فقط وحياة حيوانية، لكي تقول جنابك إذا تحقّقت الحياة المرفّهة، فماذا أفعل بالصلاة؟ ماذا أفعل بالدعاء؟ إلا إذا كان القائل منكراً لما وراء هذا العالم، فحينما لا يكون وراء الطبيعة شي‏ء، ينتفي البحث، ولكن عندما يكون وراء هذا العالم عالم، ويعضده البرهان وتجمع الاديان كلّها عليه، فلابدّ من الاعتقاد به.
فمثلما نعامل عالم الطبيعة بأدواته وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس فيه، وقيام الحكومة بتنظيم شؤون البشر، ولا اعتراض على هذا الاعتقاد والعمل، فإنّه لا محيص من الاعتقاد بعالم وراء هذا العالم أكّدته جميع الأديان والعمل به.
ولهذا العالم وسائل تعامُل خاصّة به، وتلك الوسائل جاء بها الانبياء ومنها الدعاء والذكر والقرآن والصلاة، فالأحكام العبادية كلّها أدوات للحياة في ذلك الجانب، والمعارف الإلهية فيض لأجل الحياة في ذلك العالم، ولأجل نورانية ذلك العالم.
اذن لا يحق لهؤلاء الذين وقفوا إلى هذا الجانب- تخطئة أولئك الذين وقفوا إلى ذلك الجانب، فذلك خطأ وضيق أفق. كما لا يحق لأولئك الذين وقفوا إلى ذلك الجانب أن يقولوا، لهؤلاء الذين ينادون بوجوب تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، ووجوب الوقوف بوجه الظلم والتعدي (لست على شي‏ء!). هل مسؤوليتنا نحن أن نعكف على الدرس؟
مسؤولية جميع المسلمين هي الجمع بين العمل والعلم، أي: أن يكونوا فعالين في معارضة الظلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو أن جميع الناس عملت بهذا التكليف، لما تمكنت حكومة من الاعتداء على شعبها، ولا تمكنت دولة من الاعتداء على دولة أخرى، هذه الامور تحدث الآن، لأن الشعب لا يدعم الممسكين بزمام الامور.
الشعب في واد وهؤلاء في واد آخر، فهؤلاء لم يتصرّفوا مع الناس تصرّفاً يدفعهم لإسنادهم ودعمهم، بل إنهم يتصرّفون بما يستعدي عليهم الشعوب. إننا عندما نتأمل أوضاع بلدنا نرى هؤلاء أوصلوا الأمور إلى درجة أصبح هناك شرخ بين الدولة والشعب، والى حد واجهت فيه الحكومة السقوط- ان شاء الله- وإذا سقطت هذه الحكومة، فإن الجميع سيفرح، وأنتم لا تتخيلون كم سيكون هذا الفرح عظيماً وشديداً، لماذا؟
لو أن حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) سقطت، هل كان سيحدث كذلك؟ هل كان الشعب سيفعل هكذا؟ طبعاً لا، وهنا يكمن الفرق. هؤلاء معزولون تماماً عن الجماهير، لا علاقة لهم بالشعب، أعني أن لهم علاقة بالشعب، ولكنها علاقة ظلم وتعدّ، علاقة إشاعة فحشاء.
أنتم قد تجهلون مدى انتشار الفحشاء في إيران في المدَّة الأخيرة، فليس لكم اطلاع على ذلك. لا يمكن وصف التردّي الذي يسم الأوضاع حالياً، وقد تم ذلك في شيراز، ويقال «6»: إنّه مقرر أن يتم كذلك في طهران! ولا أحد يتكلّم، المحترمون في ايران لا يقولون شيئاً، وأنا في حيرة من صمتهم! كل هذا الفساد الذي يقع، وهذا آخره، ولا أدري ماذا سيكون بعده؟ تافه يعرض بين جميع الناس أعمالًا جنسية بذيئة، مارس العملية الجنسية نفسها ولم ينبس أحد ببنت شفة! فلأي مناسبة يحتفظون بالكلام؟ والى أيّ زمان؟ متى يريدون أن يقولوا شيئاً؟ متى يريدون أن يقولوا كلمة؟ متى يريدون ان يعترضوا؟
والطريف في الأمر ان ذلك تم برضى المؤسّسات الأمنية، وبرضى الحكومة وبرضى ذلك التافه الكذا! «7» وإلا فهل يمكن وقوع أمر كهذا بغير رضا هؤلاء؟ أيمكن أن ترتكب هذه الفحشاء دون رضاهم؟ يقومون هم بتنفيذ هذه الاعمال، ثم يدفعون الصحفيين إلى انتقاد ما يحصل، وترديد الكلام على أنه كان عملًا قبيحاً ووقحاً. وحينها سيذهب الكلام في آذان الناس، في حين أنّ ما جرى شاهده الناس بأعينهم! ووصول الكلام إلى آذانهم ليس له دور سوى تهدئة مشاعر الناس، وإطفاء لهيب النار التي تأججت في صدورهم. غداً أيضاً- لا سمح الله- سيرتكب العمل في طهران، وليس من معمّم أو سياسي أو دكتور أو مهندس أو أيّ أحد يعترض.
يجب الاعتراض، يجب أن يتكلم أحد، ولو أن الجماهير تكاتفت، ولو أن الشعب اعترض بأكمله على أمر ما، واتخذ من أحكام الإسلام أساساً للاعتراض، لاستحال وقوع أمثال هذه الامور.
هذه الامور تقع نتيجة الضعف الذي أصابنا، انهم يستغلّون ضعفنا، يقولون: إنّ هؤلاء مجموعة من الضعفاء المساكين. والحال أنكم يا إخوةُ أقوياء، فظهيركم الشعب، شعبكم مسلم، ويُحب الإسلام، ويُحب روحانيي الإسلام، وعلى روحانيي الإسلام أن يقوموا بفعالية ما في خدمته، وإنْ لم يفعلوا، فإن الناس لا تعاملهم على أساس صفتهم الروحانية.
على أية حال، الإسلام ينطوي على جميع تلك المعاني التي أشرنا إليها، فهو يضم الجوانب المادية والمعنوية والغيبية والظاهرة، لأن الإنسان ذاته ينطوي على جميع المراتب، والقرآن الكريم كتاب لبناء الإنسان. ولأن الإنسان- كما أشرنا- ينطوي على مختلف المراتب بالقوة، فإن كتاب الله جاء ليجعل من هذا الإنسان بالقوة إنساناً بالفعل، وبكامله ذاتياً- بنفس الطريقة التي يقوم فيها الإنسان بإصلاح مجتمعه- حتى يبلغ المرتبة السامية.
لا ينبغي لهذه الفئة أن تتعرض لتلك، ولا لتلك الفئة أن تتعرض لهذه، فكل فئة من هؤلاء تتبنّى قضية مستقلة ومسألة محدودة لحالها. عقلك أنت لا يستوعب ما هو (الفقه) مثلًا، فلماذا تعتدي على الفقه؟ عقلك لا يستوعب ما هي (الفلسفة) وما فوق الفلسفة، لماذا تتجاسر على أصحابها؟ فأنت الذي لا تستطيع ان تستوعب. فإن من لا يستطيع فهم ما تقوله تلك الطائفة أو الفئة، وما تتوخّاه لا يحقّ لهُ الاعتراض عليها، فقد يكون فكره هو محدوداً!
على الجميع أن يتكاتفوا فيما بينهم، ويتعاضدوا، يجب أن يتوحّدوا فقيهاً ومهندساً وطبيباً وطلاباً وجامعيين وطلبة مدارس، على الجميع أن يتآزروا، حتى يتمكّنوا من القيام بعمل ما، ليتخلّصوا من هذه الأعباء. ولكنهم لا يفعلون، وأنا أجهل لماذا لا يتحركون؟ لقد سَرَتْ تباشير الحركة الآن في ايران، وأشارت الى سنوح الفرصة، والأمل- إن شاء الله- أن تتحقّق فرص طيِّبة أخرى.
وفقكم الله- تعالى- جميعاً، وأيّد الإسلام وعلماء الإسلام، والطلبة والمسلمين جميعاً.

«۱»-وتعني هنا الآخرة. «۲»-بناء على بعض الروايات فأن حضرة الخضر«عليه السلام»-نبي مرسل، ولديه معجزة، وسمي بالخضر لأنه أينما وضع قدمه اخضر ذلك المكان ونما النبات، والاسم الاصلي ل-«الخضر»-هو تالي بن ملكان بن أفخشد بن سام بن نوح. ويستفاد من الأحاديث الواردة حوله بأنه«عليه السلام»-قد حصل على عمر أبدي بسبب شربه ماء الحياة. راجع ترجمة تفسير الميزان ج ۲۶ ص ۲۴۳ و ۲۴۳. «۳»-سورة الكهف، الآيات ۶۰- ۸۲. «۴»-اشارة إلى الحديث النبوي«ان الإسلام بدأ غريباً، ويعود غريباً، كما يبدو، فطوبى للغرباء»-مسند أحمد بن حنبل ج ۱ ص ۳۹۸. «۵»-«كان أخي موسى كريم العين اليمنى، وأخي عيسى كريم العين اليسرى، وأنا ذو العينين»-منسوب إلى النبي«ص»-وقد نقل الامام الخميني في كتاب«سر الصلاة»-ص ۹۲ هذه الرواية، وكتب في تفسيرها«كان جناب موسى«ع»-لديه كثرة الغلبة على الوحدة، وجناب عيسى«ع»-كان الوحدة غالبة على الكثرة، وكان الرسول الخاتم«ص»-في مقام البرزخية الكبرى، وهي الحد الاوسط والصراط المستقيم»-. «۶»-في احتفال الفن في شيراز قام اثنان من الممثلين- وهما رجل وأمرأة- بالعملية الجنسية أمام أنظار العامة! وكانت الوقاحة إلى حد ان سفير انجلترا«بارسونز»-قال للملك لو أن مثل هذه التمثيلية قد عرضت في مدينة مانشستر الانجليزية مثلًا لواجه الممثلون مشكلات كثيرة. انظر" الغرور والسقوط" تأليف انتوني بارسونز. «۷»-الملك.


امام خمینی (ره)؛ 11 دی 0378

جمله طلایی

فراز طلایی

دیدگاه ها

نظر دهید

اولین دیدگاه را به نام خود ثبت کنید: