بسم الله الرحمن الرحيم
التقوى منشأ كل كمال
أنتم من الصفر بدأتم، وبحمد الله إلى هنا وصلتم، من القمع انطلقتم وإلى الحرية بلغتم، ورجائي أن تصلوا الغاية أي إلى ما ليس فوقه من كمال الإنسان أملي أن تكونوا وعاةً ومُوعيِن. ومثلما أنّ عملكم أيها السادة محترم وشريف مسؤوليتكم عظيمة. عليكم أن تصنعوا أنفسكم أوّلًا، لتصنعوا شعبكم ثانيا. صناعة النفس بتمام أبعادها الإنسانية، وهذا ما جاء الأنبياء لتربيته، فارتقوا به، فالجانب العلمي بكل أبعاده العلم، والجانب الأخلاقي بكل أبعاد الأخلاق من تهذيب النفس وتقواها من زخارف الدنيا، فمنشأ كل كمال هو تقوى النفس، وشقاء كل إنسان في تعلّقه بالماديات وتعلّق النفس بالماديات يُخرج الإنسان من موكب البشر، والنجاة من جواذب المادة والتفاته إلى الله- تبارك وتعالى- يرفعانه إلى مقام الإنسانية، ولهاتين الغايتين جاء الأنبياء لإخراج الناس من التعلّقات، وللتمسك بمقام الربوبية.
العلم والعمل جناحا التحليق الروحي
أنتم أيها السادة أهل العلم، ومنكم المرتدي رداء العلم، ومنكم من سيرتديه إن شاء الله، وستطوون هذه المراحل إن شاء الله، والعلم وحده لا أثر له، بل ربّما أَضرّ، والعمل بلا علم لا نتيجة له، فالعلم والعمل جناحان يصل بهما الإنسان إلى الإنسانية. العلم بكل الشؤون والعمل النفساني والجسماني والعقلاني يوصلان الإنسان إلى كل مراتب الإنسانية. والأمل أنْ تلتفتوا أنتم أيها السادة إلى هذا المطلب خلال الدراسة، وتنزّهوا أنفسكم في المدرسة عن تعلّقات الدنيا، فكلّ بلاءات البشر من هذه التعلّقات، ولولا هذه التعلقات والإقبال على الدنيا لما عشنا هذا القدر من المصائب أكثر من خمسين عاما، بل زهاء ستين عاما. وبتعلّق محمد رضا بهلوي بالدنيا لم تفهم نفسه شيئاً غير هذه الدنيا، وهذا هو سرّ كل هذا الفساد الذي جرَّه على الشعب، وكل هذا الشقاء الذي باء به هو نفسه. كان أصدقاؤه جنود الشيطان، ولتعلّقهم بالدنيا لم تدرك نفوسهم غير هذه الدنيا، فكانوا منشأ كل شقاوة هذا الشعب، وبدَّدوا كل ماله، وأشقوا أنفسهم.
فتوح الانطلاق وبلوغ الكمال
كان الأنبياء يديرون الممالك في الوقت الذي يديرون فيه الدنيا، ومثالها البارز قريب منّا، والتاريخ يري أنّهم المؤمنين فتحوا الدنيا في نصف قرن وما لهم تعلّق بالدنيا، فليس الفتح في الإسلام للتملّك، وليس أخذ البلدان في الإسلام للحكم، فلا مكان للجور فيه، وإنما الفتح لإيصال الناس إلى الكمال. ففتوح الإسلام غير فتوح الأنظمة الأخرى، ففتوح تلك الأنظمة للدنيا، وفتوح الأنبياء لله ابتغاء تذكير الناس بربّهم، فهم يريدون أن يجعلوا الناس الأسرى للمادّة والنفس والشيطان في نورهم ومدرستهم، ويُخرجوهم من حزب الشيطان إلى حزب الله (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجونهُمْ منَ النورِ إِلَى الظّلمَات) «1».
فهذان جانبان، هاتان جبهتان: جبهة الله، وجبهة الطاغوت. جبهة الطاغوت هم اللاجئون إلى الله المؤمنون به، والله- تبارك وتعالى- يخرجهم من جميع الظلمات، ويوصلهم إلى النور، وذلك النور هو نور الحقّ ذاته القائل عن نفسه: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) «2» فهو يخرجهم من كل ظلمة، ويوصلهم إلى نوره، يوصلهم إليه- سبحانه- والطاغوت يخرج الناس من النور إلى الظلمات، وهي (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) «3». هذان طريقان: طريق الأنبياء، وطريق الطاغوت، وطريق الأنبياء طريق الله، والله وليّ، والله فاعل، وبيده يُرَبَّى الإنسان. وطريق الطاغوت طريق الشيطان الذي يُربّي الإنسان.
العلم والعروج اللامتناهي
انتبهوا أعزّائي لتدخلوا في جند الله، فالدرس وحده لا يدخل الإنسان في جند الله. العلم وحده- العلم القانوني خاصّة- لا يوصل الإنسان إلى مراتب الإنسانية. يجب أن يكون، لكن يجب أن يقترن باللجوء إلى الغيب. ادرسوا الغيب. بدأتم من الصفر، وآمل أن تمضوا إلى اللامتناهي، امضوا إلى حيث لا ترون غير الله، وترون كل شيء منه، وكل أحد مظهراً له. فإذا حظي الإنسان بمثل هذه التربية صار الناس إلهيين. وليس للإنسان الإلهي حرب وقهر، وما له نزاع ولا جدال، وكل العِراك والصراع الذي يقع هو من الإقبال على الطبيعة. والمعارك التي وقعت في الإسلام إنما وقعت لإخراج الناس من
الظلمات إلى النور. إنّ الحروب الإسلامية
تختلف عن الحروب الأخرى إنها تخرج الناس من ظلمة إلى ظلمات. والأنبياء يريدون أن يُخرجوهم من كل الظلمات إلى النور.
أيدكم الله جميعا. وأشكر لكم يا أبنائي الأعزّاء المسرور بكم قلبي ابتهاجاً بوجوهكم. وأنا أنال حظي من هذه الوجوه النورانية إذ أقبلتم من بعيد في هذا الجوّ الحارّ، وتزاحمتم في هذا المنزل الضيّق. جعلكم الله من العلماء العاملين له والمجاهدين للإسلام، وأخرجكم جميعاً من الظلمات، وأبلغكم النور.