بسم الله الرحمن الرحيم
اهتمام علماء الدين بأمر القضاء
في البدء لا بد لي من الإشارة إلى نقطتين، الأولى هي أن علماء الدين الذين أمضوا وقتاً طويلًا في الحوزات العلمية ونشؤوا بها، بإمكانهم أن يغادروها رغم تعلقهم بها للالتحاق بالعمل في أي مكان آخر. فالأمر ليس مثلما يتصور البعض أمثال المنافقين من أن المعممين استحوذوا اليوم على السلطة وبوسعهم أن يفعلوا ما يشاؤون. إن علماء الدين يواصلون خدمتهم بكل إخلاص للبلد والإسلام اينما كانوا، وان التكليف الشرعي يحتم عليهم اليوم الخوض في هذه القضايا، وان المنصب والمقام غير مهيمن بالنسبة لهم. فالواحد منهم قد امضى ثلاثين أو أربعين عاماً في الحوزات الدينية بذلك الوضع الذي كانت فيه وقد اعتادوا على ذلك نظراً للتربية التي نشؤوا عليها، ولهذا فهم لا يفكرون بغير تقديم خدماتهم اينما كانوا ولا يعبؤون بالمنصب والمقام. فإذا كانت هذه الخدمة تقتضي وجودهم في الحوزة فهم باقون فيها، وإن رأوا يوماً أن الأمر يقتضي تواجدهم خارج الحوزات، فلن يتوانوا عن ذلك. ونظراً إلى أن القضاء من حق علماء الدين استناداً إلى الحكم الإلهي، وان الجميع كان محروماً من حقه هذا في ظل النظام السابق، وعلى الرغم من أن هذا الحق الإلهي مسؤولية شاقة إلا أنه لا بد من الاضطلاع بها ولا يمكن التخلي عنها.
فأينما يتواجد السادة اليوم فهم يواصلون خدماتهم، ولا يدور في ذهن أحدهم بأن يسعى للاستيلاء على منصب ما أو الاستحواذ على مقام ما إلى غير ذلك. فمثلما يتهمون إيران بأنها تطمع في احتلال البلدان وتسعى إلى إعادة الامبراطورية العثمانية مثلًا، فان أعداء الثورة والجمهورية الإسلامية يحاولون أيضاً تشويه صورة علماء الدين. وكل هذه الدعاية لا أساس لها من الصحة فالجمهورية الإسلامية لا تفكر بانشاء امبراطورية. وان الإسلام لا يسمح بذلك أصلًا. إن حروب الإسلام لم تكن تستهدف انشاء امبراطورية وانما كانت من أجل القضاء على الإمبراطوريات الظالمة وإقامة العدل الإسلامي.
التحلي بالموضوعية في الحكم على قضايا الثورة
اننا نجد اليوم في الداخل الكثير ممن يتصفون بالموضوعية في أحكامهم على القضايا والأحداث وهم بعيدون في أحكامهم عن التوجهات الغربية. إذ يدركون جيداً بأن إيران قد انتقلت اليوم من الوضع المزري لتحيى وضعاً جديداً. فكما تلاحظون فإن النساء- على سبيل المثال- يمارسن دورهن بكل جد وإخلاص من اجل بلدهن. وفي هذه الحرب القائمة تمارس النساء دورهن بأبهى صورة. فأينما ينظر الإنسان- والتلفاز يبث العديد من نشاطهن- يرى النساء يعملن بكل جد وإخلاص على خدمة هذا البلد. ففي السابق إذا ما كان يطرأ أمر ما، فان اياً من النساء اللواتي كن في المجلس أو الأماكن الأخرى، لم تكن مستعدة للنطق بكلمة أو أن تخطو خطوة واحدة من أجل ذلك.
واني لا اتصور اياً من النساء اليوم تحاول ان تتذكر يوم 17 دي «1»، الذي تصادف ذكراه هذه الأيام، وتحتفل به. طبعاً ثمة من يحاول الاحتفال به خارج إيران وتكريم رضا خان على فعلته الشنيعة متناسين كل هذه الجرائم والخيانات التي الحقها بإيران. إن كل من يتذكر تلك الأيام والأحداث التي شهدها البلد يومئذ، وتلك المصائب التي حلت على النساء، يدرك حقيقة هذا الشخص، ولماذا اختاره الإنجليز لقمع واضطهاد هذا الشعب.
ما أريد قوله هو أن علماء الدين إذا ما قرروا اليوم التواجد في مكان ما، فليس معنى هذا أنهم يسعون للاستحواذ على السلطة والتحكم بالبلد .. انظروا أنتم إلى رئيس الجمهورية الذي يحتل منصباً رفيعاً. انظروا إلى أحواله وسلوكه والى مستوى معيشته ومخالطته للناس ومعاملته لهم. فمثل هذه الأمور هي أمام مرأى ومسمع الجميع. والشيء نفسه بالنسبة لرئيس مجلس الشورى، وكذلك رئيس مجلس القضاء الأعلى. إنكم تشاهدون بأعينكم أحوالهم وأوضاعهم وكيف أنها بقيت كما هي لم تتغير عما كانت عليه أيام دراستهم في الحوزة، غاية الأمر أنهم يؤدون اليوم خدماتهم على نطاق اوسع. فآنذاك كانت خدماتهم أقرب إلى المعنويات. لذا يجب أن لا يتصور البعض بأن شريحة علماء الدين قد عثرت اليوم على مبتغاها وانها منهمكة بنهل المزيد منه. بل أن المسؤولية الملقاة على عاتقهم مسؤولية جسيمة وشاقة.
القضاء أمر خطير عظيم المسؤولية وشاق
فكما تعلمون فإن القضاء عمل صعب ومهمة شاقة. أنتم تعلمون ذلك لأنكم من علماء الدين. تعلمون أن القضاء كم هو مهم ومسؤولية جسيمة. ففي النهاية فإن أحد طرفي القضية يبقى غير راضٍ عن القاضي. فعندما يتنازع اثنان فمن النادر أن يرضى المدان بالحكم. وهذا يعني أن حجماً واسعاً من عدم الرضى تواجهونه أنتم. إنه عمل شاق يقوم به السادة ولا يتوقعون مقابله أجراً من الناس، أو رواتب عالية مثلًا. فمثل هذا الكلام غير مطروح أصلًا.
كانت هذه ملاحظة وددت الإشارة إليها كي يدرك الجميع أن هؤلاء السادة كانوا قد اعتادوا على أجواء الحوزة ومن الصعب عليهم التخلي عنها، غير أن الواجب يحتم عليهم الالتحاق للعمل في القضاء، وعلينا أن نقدر هذه التضحية. لقد تركوا محيطاً كانوا قد أنسوا به ولديهم اهتماماتهم الخاصة وأصدقاء يعتزون بهم، وبحوثهم ودراساتهم الإسلامية، وقد تخلوا عن كل ذلك اداءً للواجب.
الملاحظة الأخرى التي أود الإشارة إليها تتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء ولا بد لي من الإعراب عن شكري للعاملين فيه، إذ أنهم يتحملون مشاق جمة وقد عانوا الكثير خلال هاتين السنتين أو الثلاثة وقدموا خدمات قيمة. فليس صحيحاً الادعاء أنهم جاؤوا لاحتلال مناصب، فهم من كبار علماء الدين، وانهم كغيرهم من رجال الدين الذين تركوا على مضض مكاناً كانوا يأنسون به ويلبي طموحاتهم، وانتقلوا للالتحاق بعمل شاق ومضنٍ وذي مسؤولية جسيمة عند الله تعالى وتترتب عليه تبعات لدى البعض من الناس. إن عالم الدين الإسلامي الذي أنس روحيات الإسلام، لا فرق لديه أن يكون رئيساً لمجلس القضاء الأعلى أو مدعياً عاماً للبلاد، أو يقوم بأداء أي عمل آخر. وإذا اقتضت المصلحة أن يحصل تغيير في بعض المواقع فهذا لا يعني أن الذي ترك مجلس القضاء الأعلى كان شخصاً غير مرغوب فيه لا سمح الله. إنهم موضع اهتمام جميعاً والجميع يتطلع لخدمة الإسلام وهذا البلد. وعليه فإذا رغب بعض السادة ممن تحملوا المشاق طوال هذه الفترة، في التخلي عن منصبه والانتقال للعمل في موقع آخر أقل مشقة، فهذا لا يعني أنه شخص غير مرغوب فيه أو أن عمله اتسم بالضعف مثلًا. بل إنهم كانوا موفقين في أعمالهم غير أنهم تعبوا. فربما يجد الإنسان وضعاً في القضاء يتعبه أحياناً مما يضطره للانتقال إلى موقع آخر أقل مشقة ومريح بعض الشيء .. ونحن نريد الآن أن نلقي أعباء هذه المشقة على عاتق السيد الشيخ يوسف صانعي بصفته المدعي العام. ولا بد لي من القول إنني أنا الذي رعيت السيد صانعي كأحد أبنائي فعندما كان يأتي طوال سنوات متمادية للمشاركة في البحوث التي كنا نلقيها على الطلبة، خاصة عندما كان يتباحث معي، كنت سعيداً بمعلوماته. وانه إحدى الشخصيات البارزة بين علماء الدين ورجال العلم، وهو على اطلاع واسع ويعارض الانحرافات التي كانت موجودة في البلد، كما أنه يؤمن بضرورة المواجهة الحازمة والحاسمة لأعداء الثورة. ولهذا اخترته ليحل محل السيد رباني «2»، في ذات الوقت الذي أشكر فيه السيد رباني واثني على عمله وانتظر منه أن يحدد المكان الذي يرتئيه وبوسعه أن يقدم خدماته من خلاله لهذا البلد. وهكذا فاني اعرّف سماحة السيد صانعي للسادة وآمل أن يزيد من اهتمامه بالأمور التي يدرك أهميتها.
ولا بد لي من تذكير السادة بأن موضوع القضاء أمر بالغ المسؤولية حيث يكون الإنسان على صلة بأرواح الناس وأموالهم ونواميسهم وكرامتهم، وان أقل زلة من الممكن أن تصادر كرامة مسلم، قد تقود إلى تعاسة مسلم وحرمانه إلى آخر عمره. إن مثل هذه الأمور قائمة بالنسبة للقوة القضائية. ولكن ولكونه تكليفاً إلهياً، ليس بوسعنا أن نتخلى عنه لمجرد مشكلة ما، بل لا بد من القيام به.
القضاء حق العلماء العدول المتقين
إن القضاء حق للعلماء المحيطين بالقضاء الإسلامي وممن يتصفون بالعدل والتقوى ويدركون طبيعة عملهم والمسؤولية الخطيرة التي يتسم بها. إذ أن زلّة واحدة من الممكن أن تقود البلد إلى الفناء أحياناً، أو تعمل على إضعاف أسرة ما وتقضي عليها. ومن جهة أخرى فهو عمل مهم يحفظ مصداقية البلد، ذلك أن الخدمة في القضاء خدمة عظيمة، حيث يعمل على احقاق حقوق المحرومين، وآمل أن يوفق جميع القضاة المحترمين في مختلف انحاء البلاد، وكافة العاملين في حقل القضاء وتحقيق العدالة، في عملهم من أجل الله ومن أجل الإسلام، ومن اجل هؤلاء المحرومين الذين عانوا من الاضطهاد وسلاطين الجور على مرّ التاريخ، ومن الاقطاعيين وأمثالهم. فلا يخفى أن الكثير من هؤلاء المحرومين عانوا كثيراً من الحرمان والاضطهاد، ولا بد من العمل على إعادة حقوقهم لهم وارساء أسس العدالة الإسلامية في هذا البلد إن شاء الله. طبعاً امنيتنا أن تصبح جميع شؤونه ومرافقه إسلامية، وأن ذلك رهن بأن يعمل كل واحد من أبنائه من الموقع الذي يتواجد فيه من اجل الله ومن اجل الإسلام، وان لا يسعى إلى منصب أو مقام، وقد رأيتم كيف كانت حال أصحاب المنصب في العهد البائد، وماذا فعل ذلك الأب وهذا الابن والوضع الذي آل إليه البلد في عهدهما وكيف كانت نهايتهما. وليس معلوماً ماذا سيكون حالهما في الحياة الأخرى.
على أية حال، ان المنصب والمقام ليسا بالأمر الذي يستحق أن يضحي الإنسان من أجله بقيمه الإنسانية .. إن لديكم قيمة إنسانية وهي اسمى شيء بالنسبة لكم. فلا بد لكم من العمل على تقوية هذه القيمة الإنسانية أكثر فأكثر. إن خدمة الناس لا تتحقق بالعزلة. إن قيمة الإنسان تتجسد بالعمل الذي يستطيع تقديمه للمجتمع وما بمقدوره أن يفعله لعباد الله. فكما نعلم فإن رسول الله عانى الكثير من أجل تربية الناس ومن أجل إنقاذ المظلومين من أيدي الظالمين. كذلك عانى الذين جاؤوا من بعده ممن تمسكوا بأحكام الإسلام. وكل ذلك من اجل خدمة المحرومين. فأنتم ترون نبي الإسلام وبالوضع الذي كان فيه، حيث كان الجميع ينصاع لأمره، حينما كان يجلس وسط أصحابه لا يعرف المرء من فيهم الرسول. كانت العرب تقول: من فيكم الرسول؟ كان هذا وضع الرسول وكان ينجز أعمال الدنيا الكبرى من المساجد أيضاً. واني آمل أن تعود مساجدنا إلى ذلك الوضع الذي كانت فيه حيث كان المسجد مكاناً للحل والعقد، وكان مكاناً لوضع الخطط الحربية بأفضل نحو. وفقكم الله تعالى بمشيئته وسدد خطاكم ونصركم، واني ادعو لكم جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.