بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزتي فاطمة:
و أخيراً أرغمتيني على كتابة هذه الأسطر ولم تقبلي عذر الكهولة والنكد والتعب والمشقة.
أبدأ حديثي معك حول آفات المشيب والشباب، فإنّى أدركت كلتا المرحلتين بل أنهيتهما، والآن أصارع أعوان ملك الموت في منحدر البرزخ أو الجنة والنار، وغداً تعرض علي صحيفة أعمالي السوداء، وأحاسب على إضاعة عمري هباءاً، حينها لا أملك جواباً سوى انتظار رحمة الله حيث:» وَسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ « «2» وقال تعالى:» ولا تقنطوا من رحمةِ اللهِ إنَّ الله يغفُر الذنوبَ جميعاً « «3»،» وما أرسلناكَ إلّا رحمةً للعالمينَ « «4».
لنفرض أنّ الآيات الشريفة شملت حالي، لكن ماذا أفعل للعروج الى محيط الكبرياء والصعود الى جوار المحبوب والورود الى ضيافة الله؟ فلا يصل الانسان الى هذه الدرجة إلّا بعمله. في مرحلة ريعان الشباب حيث الحيوية والنشاط انكببت على المفاهيم والمصطلحات المزوقة، ولم أشمر عن كمي قط لأصل الى روح هذه المفاهيم وأبدل ظاهرها وملكها بملكوتها.
لقد سبرت أغوار هذه المصطلحات والاعتبارات وأقدمت على جمع الكتب بدل رفع الحجب، فكأنّ الكون خلا إلا من قبضة من الكتب التافهة المسماة بالعلوم الانسانية والمعارف الالهية والحقائق الفلسفية التي صدت الطالب المفطور بفطرة الله عن بلوغ مبتغاه، وأغرقته في غياهب الحجاب الأكبر.
حرمتني«الأسفار الأربعة» «5» من نيل وصال المعشوق، ومازادتني «الفتوحات» «6» فتحاً ولا «فصوص الحكم» «7» حكمة، فما بال غير هذه الكتب؟
و لما بلغت المشيب ابتليت بكل خطوة منه بالاستدارج حتى اشتعل الرأس شيباً وأخذت منى الكهولة مأخذاً:» ومنكُم مَن يُردُ الى أرذلِ العمرِ لكيلا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئاً « «8» وبما أنّ ابنتي تفصلها أميال عن هذه المرحلة ولم تذق طعمها لذا تتوقع مني نظم الشعر وكتابة النثر، ولا تعلم أنّى لست بشاعر ولاكاتب.
و أنت يا ابنتي العزيزة- حيث تطلبين النهاية ولم تبدأي بعد- لو فرطتي بمرحلة الشباب على هذا المنوال من اللهو والتسلية أو أكثر من هذا فسوف يفوتك ركب العشاق الى الله، وسوف تجلبين على نفسك عبأ ثقيلًا من التأسف والندم. فاستمعى لهذا العجوز البائس الذى انحنى ظهره من هذا الحمل الثقيل، ولا تكتفي بهذه المصطلحات التي هي عبارة عن فخ إبليس، و تحري عنه جل وعلا؛ مرحلة الشباب واللهو واللعب سريعة الانقضاء جداً وقد طويتها جميعاً وأحاق بي الآن عذاب جهنم، ولم يتركني الشيطان الباطني لحظة واحدة حتى يوجه ضربته النهائية- والعياذ بالله- لكنّ اليأس من رحمة الله الواسعة من أعظم الكبائر «9»، ونسأل الله أن لايبتلي العصاة بهذا الذنب العظيم.
يقال أنّ الحجاج بن يوسف الثقفي- أحد مجرمي التاريخ- قال أواخر عمره: إلهي إغفر لي، برغم علمي بأنّ الجميع يقولون لاتغفر لي، فقال الشافعي «10» لما سمع ذلك: إن قال ذاك فمن المحتمل أن يكون هذا الشقي قد وفق للتوبة «11».
و أنت يا ابنتي العزيزة لاتغتري برحمة الله الواسعة فتغفلي عن المعشوق الحقيقى، ولا تيأسى فتخسري الدنيا والآخرة.
ربنا! أقسم عليك بأصحاب الكساء الخمسة أن تحفظ أحمد وفاطمة وحسن ورضا (ياسر) وعلي الذين هم من ذرية رسولك الكريم ووصيه، وبهذا أفتخر ويفتخرون، من شرور الشيطان والأهواء النفسية. هنا أختم حديثي، والسلام.
ربيع الثاني 1407 ه- ق
طهران، جماران
وجوب الاهتمام بالحقائق والاجتناب عن الاستغراق في المصطلحات والاعتبارات
فاطمة الطباطبائي
جلد ۲۰ صحیفه امام خمینی (ره)، از صفحه ۱۳۶ تا صفحه ۱۳۸
«۱»-التاريخ الصحيح لهذه الرسالة ربيع الثاني ۱۴۰۷ حيث أصلح فى الطبعات اللاحقة وأدرجت الرسالة حسب تسلسلها الطبيعي. «۲»-بحار الانوار، ج ۹۱، ص ۳۹۶. «۳»-سورة الزمر، الآية ۵۳. «۴»-سورة الأنبياء، الآية ۱۰۷. «۵»-إشارة الى كتاب «االحكمة المتعالية فى الأسفار العقلية الأربعة» تأليف صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازى الملقب بصدر المتألهين والمعروف بملاصدرا، توفي سنة ۱۰۵۰ ه-. ق. «۶»-إشارة الى كتاب «الفتوحات المكية» تأليف أبى عبدالله بن محمد بن على المعروف بمحى الدين بن العربي، توفي سنة ۶۳۸ ه-. ق. «۷»-إشارة الى كتاب «فصوص الحكم» تأليف محي الدين بن العربي. «۸»-سورة الحج، الآية ۵، وسورة النحل، الآية ۷۰. «۹»-قال أبو عبدالله«ع»-: «إنّمن الكبائر ... اليأس من روح الله ...» وقال: «الكبائر القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ...»، أصول الكافى، ج ۲، ص ۲۷۸ وص ۲۸۰، ح ۴ و ۱۰. «۱۰»-محمد بن ادريس الشافعي أحد أئمة المذاهب السنية الأربعة. «۱۱»-إحياء علوم الدين، ج ۴، ص ۶۹۷.
امام خمینی (ره)؛ 11 دی 0378