بسم الله الرحمن الرحيم
أفضل أنواع الهجرة
إنّ حالتي الصحية لا تسمح بالاطالة في الكلام، لكنني سأختصر. إنكم كما قيل لي من جمعية (الهجرة). إنّ للهجرة معنى كبير، وأهم هجرة هي الهجرة من حب الذات والابتعاد عن هذه الانانية النفسية، والهجرة من النفس إلى الله.
إنّ هجرة الرسول الأكرم (ص) من مكة إلى المدينة لكي يُري الناس أسلوب الهجرة من النفس للتقرّب إلى الله. وإنما جاءت تعاليم الأنبياء لبيان هذه الهجرة التي ننتقل فيها من الظلمات والضلالات وحب الذات والنفس، إلى الله تعالى، ولا نعبأ بنفوسنا وآمالنا الشيطانية، ونتجه إلى الله - تبارك وتعالى- الذي يقول: (ومَن يخرُجْ مِن بَيتهِ مُهاجراً إلى اللهِ ورسولهِ ثُمّ يُدركهُ الموتُ فقد وقعَ أَجرُهُ على الله) «1» فيحتمل أن يكون البيت في هذه الآية بمعنى الطبيعة النفسية، فيمكن أن يكون معنى البيت هو بيت النفس الإنسانية. يعني: الطبيعة التي هي بيت النفس ومنزلها الذي قرّت فيه وحُبست. فيحتمل أن يكون معنى الآية الشريفة المتقدمة هكذا: كل شخص يخرج من بيت النفس هذا (مهاجراً إلى الله ورسوله)، متجهاً إلى الله ورسوله، فيخرج من تلك الأمور الطبيعية التي تحثه على التوجه إلى الدنيا وآمالها، وتحجبه عن الوصول إلى الله، والى معرفة حقيقة هذه الأمور التي تشد الإنسان إلى الدنيا، والتي لا يخلو منها إنسان. علماً بأنَّ النفس متعلقة بالدنيا ومشدودة إليها، وأنَّ الإنسان يتوجه عادة إلى نفسه وآماله.
فاذا خرج الإنسان من هذا البيت المظلم، وهو البيت الذي يحول دون وصولنا إلى الكمال الإنساني، وتوجه إلى الله، أي هاجر إلى الله تبارك وتعالى، والى رسول الله، إذ ان الهجرة إلى الرسول هي هجرة إلى الله، ووصل إلى مرحلة يدركه فيها الموت، والموت هنا: إما أن يكون معناه الموت الاختياري الخاص بأولياء الله الذين يعرضون عن جميع آمالهم، ويفنون في الحق تعالى، وإما أن يكون معناه الموت المعهود. فعلى المعنى الأول يكون معنى قوله تعالى: (فقد وقع أجره على الله) هو أنّ هذا الشخص لا يريد أجراً غير الأجر الذي يعطيه الله إياه. وهذه هي غاية آماله وأمنياته؛ فهو يطلب من الله فقط.
لا تكون الأعمال لوجه الله إلّا في هجرة الأهواء النفسانية
انتن اللائي اخترتن لأنفسكنَّ هذا الاسم الشريف الذي هو (الهجرة) يحتم عليكن أن تنتبهن إلى وجوب أن تكنّ عند حسن الظن في تحمّل مسؤولية القيام بهذه الهجرة. واعلمن أنّ هذه الدنيا مهما كانت فستنتهي. وأنّ الإنسان إذا اشتد تعلقه واهتمامه بها، وكثرت رغبته فيها، فانّ حياته ستكون صعبة. وفي نفس الوقت فانّ اولياء الله قد هاجروا فعلًا فهجروا الرغبات النفسية. وهذه الهجرة التي بدأت لنيل رضا الله تعالى ومساعدة الإخوة والأخوات، إذا تحققت وتمّت- إن شاء الله- فانها تستوجب أن تكون أعمال الإنسان لوجه الله تعالى. إذ إن كل عمل نقوم به- الآن- مشوب بالتظاهر والغرور، وهذا يعني أنه عمل نفسي شيطاني. أما إذا استطاع الإنسان أن يهاجر إلى الله والرسول، فانّ جميع أعماله ستكون روحانية إلهية، بحيث إذا حارب فان حربه تكون إلهية، وما يكسبه يكون إلهياً أيضاً. وقد كان الأنبياء يقومون بجميع الأعمال التي يمارسها بقية الناس، فكانوا يقومون بالأعمال المعيشية، والأعمال الحياتية والأعمال ذات العلاقة بإدارة شؤون البلاد.
التمييز بين الأعمال الإلهية وغير الإلهية
كان النبي (ص) يذهب بنفسه إلى الحرب، كما كان يعاشر الناس، ويعيش حياة عادية، لكنها كانت حياة إلهية، فإذا كان الرسول الكريم (ص) مع جماعة من المسلمين كانوا يؤدّون عملًا واحداً وكان هو يعمل كواحدٍ منهم. وربّما كان بينهم من كان يتبع الرسول (ص) اتباعاً مطلقاً. كما كان من بينهم من هو منافق، ومن لم يقم بهذه الهجرة الإلهية. فظاهر الأمر يشير إلى أنّ هذا العمل الواحد ينجز من قبل الجميع بشكل واحد، فمثلًا كان الجميع يخرجون إلى الحرب، أو ينجزون عملًا آخر، لكن الواقع يدل على أنّ هذا العمل الواحد لم ينجز من قبل الجميع بشكل واحد، بل لكل منهم عمله الذي يختلف اختلافاً معنوياً عن أعمال الآخرين استناداً إلى النية والقصد، فالعمل الذي كان يؤدّيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يختلف اختلافاً معنوياً كاملًا عن العمل الذي كان يؤدّيه المنافقون. فالأول عمل إلهي، والاخر عمل شيطاني. إذ أن كل عمل يقوم به الإنسان المرتكس في هذه الظلمات النفسية يكون مظلماً أيضاً، وفاقداً للنور والهداية، حتى إذا كانت أعمال هذا الإنسان أعمالًا عبادية، لأنّ أعماله العبادية لا تتعدى كونها أداء لتكليف، فهو يصلي - مثلًا، لكن صلاته لا تتجاوز كونها أداء لواجب يرفع عنه فقط السؤال؛ سؤال من يسأله: لماذا لا تصلّي؟ فصلاته هذه لا تحمله على الهجرة، إذ ينبغي ان تقودنا عباداتنا للهجرة إلى الله تعالى.
فاسعوا إلى ان تكون أعمالكم أعمالًا إلهية، وأن لا تكون بدافع التظاهر والرياء واستمالة الناس وطلب مدحهم وإحراز منزلة بينهم. بل يجب أن تكون لله تعالى. فاذا كان العمل لوجه الله فانه يكون عملًا نورانياً، وأي جزء من أجزاء الصلاة يحصل فيه التوجه اللازم إلى الله - تعالى- يكتسب نورانية يرتقي بها ويسمو، وأي جزء منها تحصل فيه الغفلة عن هذا التوجه لا يكتسب تلك النورانية، ولا يسمو إلى الملكوت. وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان. ولا فرق بين أولياء الله وغيرهم من حيث الظاهر. بل قد نجد أحياناً أنّ الآخرين أحسن مظهراً من الأولياء. فالفرق بين الفئتين هو الجانب المعنوي الذي يتصف به الأولياء، ويتميّزون به على غيرهم. لذلك فانَّ أعمالهم تختلف اختلافاً معنوياً كاملًا عن أعمال غيرهم، - (ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين) «2» فتلك الضربة قد حسمت الموقف لصالح الإسلام وقضت على الكفر. لكن لو أنَّ شخصاً آخر كان قد ضرب هذه الضربةالحاسمة، لما كانت ضربته افضل من عبادة الثقلين. إذ لو فرضنا انَّ شخصاً ممن غلبته نفسه بهواها قد قام بما قام به عليّ (عليه السلام) يوم الخندق، وكانت ضربته سبب انتصار المسلمين على الكفار لكان عمله يسمى عبادة فقط، لكنه لا يصل إلى مستوى يكون فيه أفضل من عبادة الثقلين. وهذا يدل على أنَّ عمل عليّ (عليه السلام) كان عملًا معنوياً إلهياً نابعاً من توجه خالص إلى الله تعالى. وهذا التوجه هو الذي رفع ذلك العمل وجعله أفضل من عبادة الثقلين، ولا شك أنّنا عاجزون عن اكتساب مثل هذا التوجه الخالص. لكننا نستطيع أن نتشبه به تشبهاً بعيداً ونسير على نهجه لكي تكون أعمالنا خالصة من وساوس الشيطان.
فيجب عليكن أن تجاهدن أنفسكن جهاداً كثيراً حتى تستطعن القيام بمثل هذا العمل، وهذه هي مقدمة الهجرة التي اخترتنها لأنفسكن.
أرجو أن توفّقن في هذه الهجرة، وتُحققنَ هدفكُنَّ بشكل كامل، وأن تَكُنَّ في سعادة وسلامة. وأسأل الله تعالى أن يحفظكن جميعاً.