بسم الله الرحمن الرحيم
البعثة مصدر تحول علمي عرفاني في العالم
أنا بدوري أهنئكم والشعب الإيراني النبيل وجميع المسلمين، بل وكافة المستضعفين في العالم، بعيد المبعث النبوي السعيد.
إن قضية المبعث وماهيته وبركاته ليست بالأمر الذي بوسع ألسنتنا العاجزة الخوض فيه. إذ أن أبعاده المعنوية والمادية على درجة من السعة والشمول بحيث لا أتصور أن بالإمكان التحدث عنها وتناولها .. لقد اوجدت البعثة تحولًا علمياً- عرفانياً في العالم بحيث تحولت الفلسفة اليونانية التي انجزها اليونانيون وكانت ذات قيمة أيضاً، إلى عرفان عيني وشهود واقعي لأرباب الشهود. وان البعد القرآني هذا لم يتجل لأحد حتى هذه اللحظة إلا لمن خوطب به. كما أن بعض أبعاده لم تنكشف حتى لمن خوطب به، واقتصر علمها على ذات الجلالة جلت عظمتها. فإذا ما جال أحد في فلسفات ما قبل الإسلام وما بعده لا سيما القرون الأخيرة، والعرفان الذي كان قبل الإسلام مما كان في الهند وأمثالها، وقارن ذلك مع نتاج العرفاء المسلمين ممن خاضوا في تعاليم الإسلام، يدرك أي تحول عظيم حصل في هذا المجال، علماً أن العرفاء المسلمين الكبار كانوا راجلين «1» أيضاً في كشف حقائق القرآن.
إن لغة القرآن، التي هي من البركات الكبرى لبعثة رسول الله، هي لغة السهل الممتنع .. ربما يتصور كثيرون ان بوسعهم أن يفهموا القرآن كونه يبدو في الوهلة الأولى سهلًا. إن الكثير من أرباب المعرفة والفلاسفة يتصورون أنهم فهموا القرآن لمجرد أنهم أدركوا أحد إبعاده. بيد أن القرآن ذو أبعاد لم تتضح لأحد من الكائنات- الملك والملكوت- قبل ان يبعث الرسول الأكرم- صلى الله عليه وآله وسلم- وقبل أن يتن- زل القرآن من مقام الغيب ويتجلى بمظهره النزولي على قلب رسول الله. فبعد ان اتصل المقام النبوي المقدس للولي الأعظم بمبدأ الفيض- بالمقدار الذي كان قابلًا للاتصال- اكتسب القرآن مرتبة النازل المنزّل وتجلى في قلبه المبارك، ومع نزوله إلى المراتب السبع جرى على لسانه المبارك. وان القرآن الموجود في أيدينا هو النازلة السابعة للقرآن وهو من بركات البعثة. وان هذه النازلة السابعة نفسها أوجدت من التحول في العرفان الإسلامي والعالمي مما جعل أهل المعرفة ينالون شمة منه، ومن غير المعلوم إن كانت ستتضح للإنسان أبعاد القرآن كلّها. فالآيات التي نراها في القرآن الكريم، والتي هي من بركات البعثة أيضاً، وفي الوقت الذي يتصور الإنسان بأنه أدرك فحواها، لم يتم اكتشافها حتى الآن: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن .. وهو معكم) «2». (الله نور السموات والأرض) «3». فهذه آيات ليس بوسع المفسر أن يفهمها ولا الفيلسوف أو العارف. وكل من يدعي أنه أدرك معناها فهو غارق في الجهل .. انما يعرف القرآن من خوطب به «4». فعن هذا الطريق (من خوطب به) سُلّم إلى عدة معدودة من أولياء الله والأئمة المعصومين- عليهم السلام-، ومن خلال ذلك تم تفسيره بنحو يكون بوسع الإنسان أن يفهمه.
ومن لطائف الوحي أن هذه الآية الشريفة (الله نور السموات والأرض)، عندما تناولها المفسر قال: ان الله نور السماوات والأرض، وهو ما لا علاقة له بالتفسير. ان أياً من هؤلاء المفسرين ورغم العناء الكبير الذي تحملوه، لم يستطع أن يخوض في لطائف القرآن، ليس لأنهم قصّروا في ذلك وإنما لأن عظمة القرآن أكبر من هذه المسائل.
إن قضية معرفة الله الواردة في القرآن والتي وردت في الحديث (ما عرفناك حق معرفتك)، «5» تعني باننا لم نتعرف عليك كما ينبغي، وليس" ما عرفناك حق معرفتي إياك". فهو قد عرف المقدار الذي قدّر للإنسان معرفته غير أن حظ الإنسان من المعرفة غير الذي هو حق معرفة الله. إن حق معرفة الله وحق عبادة الله لم يتحققا، حتى بناء على هذا الحديث حيث يقول الرسول الأكرم الذي هو أعظم عارف واعظم عابد: ما عرفناك وعبدناك. فلم يقل ما عرفناك حق معرفتي إياك، وما عبدناك حق عبادتي إياك. لأنه- صلى الله عليه وآله- أدى ذلك. ولكن الحظ الإنساني والتجلي الظاهري محدودان بهذا، وان معرفة الله أمر غير متيسر لا للملك المقرب ولا للنبي المرسل. وهذا من بركات البعثة. وان قدر المعرفة المتحقق لأهل المعرفة هو من نازلة كتاب الله على قلب رسول الله، وهذا أيضاً من الأسرار العظيمة.
إن كيفية الوحي هي من الأمور التي ليس بوسع أحد أن يفهمها غير رسول الله ومن كانوا معه في خلوته، أو الذين استلهموا منه كيفية نزول الوحي. ولهذا فكلما أرادوا أن يعرفوا ذلك قاموا بتعريفه على قدر فهمنا نحن العوام. مثلما يعرّف الله تبارك وتعالى نفسه للناس على قدر فهمهم من خلال ذكره للابل «6» والسماء والأرض والخلق إلى غير ذلك. وكل هذا لأن البيان قاصر عن أداء الموضوع حقه، وقد تطرق القرآن إلى ذلك بالقدر الذي بوسع البيان أداؤه. ولم يفعل ذلك أي كتاب آخر، ومن قام بذلك فانما فعل ذلك أسوة بالقرآن.
القرآن باب المعرفة الإلهية
لو لم يكن القرآن لكانت باب معرفة الله مغلقة إلى الأبد. وما حققته الفلسفة اليونانية يعتبر مهماً في مجاله لأنها تبرهن على وجود الله تبارك وتعالى بالاستدلال لا المعرفة، والمعرفة غير اثبات الوجود. وقد سعى القرآن للبرهنة عبر الطرق المتعارف عليها.
ويتجلى البعد الآخر في عرفان القرآن، وان هذا القدر الموجود في القرآن لا تجدونه في أي كتاب آخر، وان التعابير الواردة في القرآن تختلف تماماً عن تلك المتداولة في كتب العرفان الإسلامي رغم النقلة النوعية التي ارتقت إليها بالنسبة إلى ما كان متداولًا في العرفان قبل الإسلام. وكل هذا من بركات البعثة. علماً أن القدر المتجلي في المعنويات لم يتجسد في الماديات. ذلك أن اتصال المعنوي بالمادي وانعكاس المعنوي في مختلف الأبعاد المادية، انما هو من خصوصيات القرآن ومن افاضاته. فالقرآن وفي ذات الوقت الذي هو كتاب معنوي عرفاني، فإنه أيضاً كتاب لتهذيب الأخلاق ويبرهن على موضوعاته بالاستدلال ويوصي بالوحدة وبالقتال، وكل ذلك من خصائص كتابنا السماوي الذي يفتح باب المعرفة بما يتناسب مع فهم الإنسان واستيعابه. ومن المؤمل أن نأخذ بنظر الاعتبار مختلف أبعاده، نحن اتباع الإسلام والقرآن، ونجاهد لتحقيق أهدافه وتطلعاته.
مقارعة الظلم وإنقاذ الإنسان هما الدافع لبعثة الرسول
فإذا ما تمسكنا بهذا البعد الظاهري للقرآن، الذي يتطلع إلى إدارة شؤون الإنسان وإنقاذه من الظلم الذي يتعرض له، لأن أحد أهداف القرآن القضاء على الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية للبشرية جمعاء، إذا ما سعى المسلمون إلى نشر هذا البعد القرآني الذي يهدف إلى تطبيق العدالة الإسلامية في العالم، حينها سيتحقق عالم تسوده الصورة الظاهرية للقرآن. وان الشعب الإيراني الذي قام ونهض وقطع دابر الظالم، ينبغي أن يتطلع إلى تحقيق العدالة، وان يعمل بكل ما في وسعه لاستئصال جذور الظلم في هذا البلد ونشر هذا النور والعمل على توعية شعوب الدول الإسلامية والمستضعفين في العالم كي يتسنى لهم إنقاذ أنفسهم من هيمنة القوى الكبرى. وما ينبغي أن نلتفت إليه في يوم المبعث النبوي هو ان بعثة رسول الله هي من أجل أن يتعرف الناس على سبل مقارعة الظلم وإزالته، والسبيل الذي تتمكن الشعوب من خلاله مواجهة القوى الكبرى. البعثة هي من اجل إنقاذ أرواح الناس وتهذيب أخلاقهم ونفوسهم، واخراجهم من الظلمات. ونبذ الظلمات تماماً واحلال النور، احلال نور العدالة وتحديد السبيل إلى ذلك. البعثة من أجل أن يدرك الناس جميعاً، المسلمون جميعاً، بأنهم إخوة ولا بد لهم من السعي لتجسيد الوحدة ونبذ الفرقة.
الجميع مسؤولون عن صيانة الجمهورية الإسلامية والمحافظة على الوحدة
ايها الأخوة! اننا نواجه اليوم مختلف القوى الشيطانية، وعلينا أن ندرك جميعاً الواجب الإلهي الملقى على عاتقنا في مواجهة التحديات. وان كافة فئات الشعب بمختلف انتماءاتها والمهام الموكلة إليها، بدءً من كبار المسؤولين وانتهاءً بالسلطات الثلاث والجيش والحرس وقوات التعبئة وكافة أفراد القوات المسلحة؛ الجميع مسؤول عن الحفاظ على الإسلام وصيانة الجمهورية الإسلامية، وهذا واجب بل من أعظم الواجبات التي نص عليها الإسلام، ولا يتحقق ذلك إلا بالتكاتف والتآزر وان يكون ابناء الشعب اخوة فيما بينهم. انما المؤمنون أخوة «7». فإذا ما تم صيانة هذه الاخوّة الإيمانية في كافة انحاء البلاد، ولم يفكر كل واحد بنفسه وتطلع الجميع لهدف واحد، فلن يجرؤ احد على تهديد هذا البلد .. وإذا ما ضعفت- لا سمح الله- هذه الاخوة الإيمانية بين أبناء الشعب، بين المسؤولين والنواب وكافة فئات الشعب من عمال وفلاحين، وتمكن الشياطين من النفوذ في اوساطكم وتأجيج العداء فيما بينكم، حينها ستطمع القوى الكبرى في بلدكم وتوعز إلى أياديها للعمل على تعبيد الطريق لعودتها. فهؤلاء لا يأتون بصورة مباشرة وانما عن طريق عملائهم الفاسدين وعبر إشاعة الأفكار الفاسدة وبث الشائعات والأكاذيب بين صفوفكم كي يسيء الظن بعضكم بالبعض الآخر. وإذا ما اضحت- لا سمح الله- فئات الشعب خلافاً لما هي عليه الآن تسيء الظن إزاء بعضها البعض، فسينفذ هؤلاء في أوساطكم ويعملون على استغلال الخلاف فيما بينكم. وحينها سنكون جميعاً مسؤولين عن ذلك؛ أنا الطالب للعلم ومراجع الإسلام وعلماء البلاد الإسلامية ومجلس الشورى ورئيس الجمهورية والجيش وحرس الثورة وجميع فئات الشعب. سنكون جميعاً مسؤولين أمام الله تعالى، وسنُسأل في محضر الله عن نعمة الله التي هي الإسلام. لذا فنحن مطالبون بالتخلي عن منافعنا الشخصية من أجل الله. يجب أن نكون جميعاً لله تعالى، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمهما كانت القوة فهي من عنده، ومهما كانت النعمة فهي من عنده وهو نور السماوات والأرض. ونحن مكلفون عقلًا وشرعاً بالعمل على تقوية دينه ونشر الإسلام بين بني الإنسان، ولا يتحقق ذلك إلا بوحدة كلمتكم والابتعاد عن الاختلافات إن وجدت لا سمح الله وان شاء الله لن تكون. واني آمل أن نتمكن من الصمود بقوة بوحدة الكلمة وبالأخوة الإسلامية، وصيانة هذا البلد من الأخطار التي تهدده. ونسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بألطافه للنهل من نور معرفته التي ألقاها إلينا عن طريق القرآن. وان يحفظ الوحدة الإسلامية لهذا الشعب، وان يوقظ الحكومات الإسلامية ويمهد الطريق أمام تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها.
والسلام عليكم ورحمة الله